يقول لك صديقك: بارك لي فقد صدر كتابي الأول، ونسختك محجوزة! ويصيبك الحرج حين يطاردك ليعرف رأيك في روايته أو مجموعته القصصية أو دراسته، أو حتى مجرد المقالات التي تم تجميعها بصورة عشوائية بين دفتي كتاب.
لماذا الحرج؟ لأنك تبحث عن صوته الخاص فلا تجد، عن موهبة أيقظت فيك شجنًا ما أو حنينا أو حتى ابتسامة لصورة ساخرة مكتوبة بذكاء فلا ترى أثرًا، أنت أمام لهفة شديدة على الحصول على لقب مؤلف والانتقال من خانة الصحفيين إلى مصاف السادة الكتاب، وفي سبيل تحقيق هذا الهدف الضاغط تجري تسويد الصفحات بآلاف السطور من الهراء، وبالعلاقات الشخصية يصبح الناشر متوفرًا، والنتيجة تراجع مروع في صناعة النشر وابتذال شديد لفكرة صدور كتاب جديد! لذا حين يصادفك كتاب متخلص تمامًا من هذه الأمراض، يصبح الاحتفاء به فرض عين، ودعوة مولانا القارئ ليشاركنا انطباعاتنا حوله من لزوم ما يلزم..
السؤال الآن: أي جبروت هذا الذي يحمله ذلك العنوان الذي اختارته زيزي شوشة ليطرز غلاف ديوانها الأول "غرباء علقوا بحذائي"؟ ولماذا هذا الحس السادي الممعن في التنكيل بالآخرين وسحقهم على أسفلت الطريق؟
ربما كان هذا هو الانطباع الأول الذي يرد إلى ذهن المتلقي وهو يتصفح ديوان مكتوب برهافة نصل حاد وشجن طيور مهاجرة، لكن القراءة المتأنية لما بين سطور القصائد ستكشف عن مفاجأة، فالصوت الأنثوي الهامس في البرية هو الذي يخر صريع غربة مع الذات والعالم في مدينة لا تعرف القمر وبشر فقدوا إنسانيتهم
الصمت يشقق الجدران.. بحثًا عن شمس مطفأة في الخارج.. كانت الكتب لا تقول شيئًا.. لكن الليل بغربته وجماله وغوايته وبرده الباحث عن دفء لا يجيء يظل التيمة الأكبر في قصائد لامرأة تكاد تصاب بالجنون بحثًا عن معنى مستحيل للوجود: الليل.. امرأة وحيدة.. تجهز مائدة العشاء.... الليل عجوز ممتلئ بالحكايات.. وتقول زيزي في قصيدة "طفولتي هناك": الليل يبدو ناعمًا.. كشال من الحرير.. عندما يلتف حول عنقي.. تتضح الرؤية أمامي.. أرى في عيونكم رجلًا مشنوقًا بحبل التاريخ.. وتخاطب الظلام في قصيدة "من أين تأتي كل ليلة؟" قائلة: تعال أيها الظلام.. ادخل إلى غرفتي اجلس إلى جواري.. أعلم أنك تتألم مثلي... أيها الظلام كن رقيقا معي.. غطني بثيابك الشفافة.. وبعدها اخرج من هنا.. وأغلق الباب وراءك..
الجميل في "غرباء علقوا بحذائي" أن شاعرتنا لم تلجأ – مثل أخريات – إلى تيمات الجنس المجاني لتنال إعجاب حفنة من عواجيز فرح وسطنا الثقافي، ولم تفتعل كسر التابوهات لتحظى بتصفيق جمهور ملول، فقط أخلصت لصوتها الخاص، وتبعت قلبها في هدوء، فجاءت قصائدها مرثية جميلة لمدينة متوحشة وهدهدة على رأس ليل أعمى وسخرية من بشر نسوا أين وضعوا قناعهم قبل أن يخلدوا للنوم أمس..