كانت نصف نائمة، لكنها وعت لطرقات وجرس طويل على الباب، أفاقت وتحركت نحو باب الشقة، وهي تقاوم صداعًا في رأسها وفوق عينيها.. فتحت الباب فوجدت رجلا طويلا في يديه دفتر وقلم؛ يقول بدون مقدمات.. (الكهربا....) عرفت أنه محصل الكهرباء.. سألته بصعوبة (كام؟؟) أجاب بسرعة وصوت مجلجل (عليكم ٤٠٠ جنيه)..
أدركت أخيرًا أنها لا تحلم، وأن الأمر واقع، والرجل أمامها "حقيقي" يطالبها بمبلغ ٤٠٠ جنيه كاملة دون إبطاء أو هزار أو مفاوضة..
أُحرجت أن تقول له إن الببيت ليس به هذا المبلغ، ولم تعرف كيف تتصرف كي ترده على أعقابه بغير سوء.
قالت له بجدية وهي تنظر في عينيه: عبدالناصر مات.. تفتكر هالحق الجنازة بتاعته؟؟
تثبت الرجل مكانه ثم أجابها: همه بيذيعوا دلوقت حفلة قناة السويس، ادخلي شوفيها في التليفزيون، وبعدها أكيد هايجيبوا حاجة عن جنازة عبدالناصر..
ثم أكمل بسرعة يقول: اتفضلي إنتي عشان تلحقي تلبسي وتنزلي وإن شاء الله تلحقي الجنازة.. (ومد يديه وسحب الباب وأغلقه وانصرف)!!!
هذا الموقف حكته على الملأ طالبة في محاضرة، كنت ألقيها في الجامعة، عن الكتابة الصحفية الساخرة من وحي مواقف واقعية في الحياة..
وكان سؤالي الأول للطلبة يومها: أذكر يومًا أسود في حياتك، انقلب لموقف هزلي أو اكتشفت فيه جانبًا مضحكًا واحكيه لنا؟؟
وعلى سبيل التدريب على اكتشاف المفارقات الكوميدية في حياتنا اليومية؛ والتقاط خيط البداية لفكرة قصة صحفية صادقة ساخرة؛ راح الطلبة الحضور يتسابقون لرواية مواقف مضحكة حدثت معهم ولم ينسوها، ولم يعرفوا كيف أو لماذا جرت الأمور هكذا أصلا ......
مثل الطالبة البدينة خفيفة الظل قوية الشخصية التي حكت ببساطة عن يوم ذهبت للتأمين الصحي من الصباح الباكر كي تحصل على أوراق وتنهي إجراءات روتينية مهمة تخص علاج أمها؛ وما إن دخلت أول مكتب في هيئة التأمين الصحي، حتى وجدت الموظفة المختصة تقول لها: إحنا لسه ما اصطبحناش ولا قلنا يا صبح.. انزلي هاتيلي فطار فول وطعمية وبيض وبتنجان وبطاطس وربع جبنة وعيش بلدي واطلبي لي شاي من البوفيه هنا وحاسبيهم.. وبعد ما أفطر أخلص لك الورق بتاعك.
وعلى عكس ما توقعت؛ انصاعت الفتاة البدينة الجميلة لتوجيهات الموظفة ونفذتها حرفيا دون أي مناقشة ولم تجد أي غضاضة في الصعود والهبوط المتكرر على سلالم الهيئة كي تقضي الطلبات وتنفذ التوجيهات وتكسب الموظفة المسئولة عن أوراقها بأي ثمن!
وحكى طالب مهذب هادئ عن موقف تعرض له خلال زيارته لبيت أخته وزوجها، في إحدى الدول الإفريقية؛ وفي يوم نسي وخرج يشرب الشاي صباحًا في شرفة البيت الواسعة، فوجد في وجهه قردًا فوق سور أقرب ما يكون منه.. شعر بالفزع فخلع نعليه ورماه بفردة الشبشب، فرد عليه القرد بنفس العنف ورماه بثمرة جافة كبيرة في يده كادت تفتح رأسه، فسدد له صاحبنا فدرة الشبشب الثانية في رأسه، حتى اشتعلت الخناقة وتحمس القرد أن يرد له واحدة بواحدة، وكاد أن يهجم عليه لولا أن صاحبنا جرى واختفى من أمامه (وقصر الشر)، وقرر ألا يتمادى أو يتجاوز حدوده أكثر من ذلك، حتى تنتهي إقامته، ويعود سليمًا من بلاد القرود!
في الصف الأخير كانت هناك طالبة أنيقة رقيقة، ترفع يدها بإصرار وتجاهد كي نسمعها، وهي تحكي عن يوم عيد ميلادها الماضي، وحين أصابها الدور وقفت وقالت إنها كانت متفائلة، وترتب لدعوة أصدقائها لعيد ميلادها، وهي تتوقع سهرة حافلة مليئة بالضحك والأغاني والحلوى والشموع والتورتة، إلا أنها كلما اتصلت بأحد يومها من صديقاتها، أو من زملائها، أو أقاربها، وجدته في حالة عصبية شديدة، أو خارجًا من مشكلة لتوه، وفي مزاج أسود، أو مريضًا أو محبطًا أو مكتئبًا، والغريب أن عددًا كبيرًا ممن ردوا على تليفونها كان يحكي لها قصة مأساوية، ثم بعد أن يعرف بأمر عيد ميلادها يقول لها (ده يوم نحس.. بس عمومًا كل سنة وانتي طيبة)!!
كنا نضحك جميعًا بصوت عال ونحن نستمع لقصص بعضنا على التوالي، وكأنها يوميات هزلية بلا نهاية.. وعن نفسي أحببت هذا التدريب الذي بدأت به محاضراتي، أكثر من أي جزء آخر قدمته في ورش العمل الصحفي المتخصص.
لا أنسي أبدًا الطالب الصعيدي الأسمر الذكي الذي حكى تجاربه المريرة مع السفر بالقطار؛ لدرجة أنه بعد حوادث انقلاب وحريق وتعطيل وحصار قطارات الصعيد بالذات، صار يقرأ شعار سكك حديد مصر المكتوب فوق عربات القطار (س . ح . م) على أنه الحروف الأولى اختصارًا من كلمة (سيادتك حاتموت مقتول)!!!!!
[email protected]