ما دمت أنا مقدم البرنامج.. فأنا البرنامج.. أنا من فيه.. انا ما فيه.. أنا السماعة والمايك والكاميرا.. بل أنا الاستوديو والضيف والمحلل.. بل أنا أنتم أيها المشاهدون.. وما أنتم إلا أعراض زائلة تبدو في صور مبهمة.. وأنا جوهرها الأقدس..
لا يبدو لكليات الإعلام حاليًا أهمية، ربما يجب التفكير في غلقها بعدما بات "الإعلام" مكافأة "نهاية خدمة"، فهذا لاعب كرة قدم نهل من لعبته حتى شبع، وخلع قميصه المرقم؛ ليرتدي بذلة عصرية كرافاتها بلون شعار القناة، ليستأثر بدور مذيع ومعلق، وذلك فنان انحصرت عنه الأضواء، فجدد لونه خالعًا جلد الممثل مرتديًا زي الإعلامي وملحقًا اسمه بكلمة "شو".
لا جدوى من المذاكرة ليل نهار بالثانوية العامة؛ لاقتناص مجموع يقترب من المئة بالمئة، لا ترهق نفسك بدخول كلية الإعلام أو التدريب، أو أن تخاطب نفسك في المرآة ممسكًا كوبًا زجاجيًا أو علبة "كانز" فارغة، يتخيلها عقلك - فقط - أنها "مايك" شاعرًا بالنشوة، بأنك ستصبح مذيعًا مشهورًا ذا صيت يشار إليه بالبنان، فنحن في زمن إعلام "البيزنس".
"إعلام" العصر الجديد لا يعرف كثيرًا عن مواثيق الشرف الصحفي لا يبالي بالخصوصية والذوق العام، ينقب في كل ما هو شخصي، يسير وراء السوشيال ميديا دون تأكد من معلومة أو مصدر.. أصبح كلعبة كرة القدم يخطف المشهورين من منافسيه، حتى بتنا تنتظر موسم انتقالات الإعلاميين، كموسم انتقالات لاعبي كرة القدم في يناير من كل عام.
في فضائيتنا من الطبيعي أن تشيد مذيعة بجمال الهيروين أو تطالب وزير الداخلية حمايتها من فيديو إباحي أو التشهير بالأطفال وأسرهم أو عرض رومانسيات سيدة متزوجة وعشيقها على الهواء، والدعوة والترويج للحمل خارج الزواج، ونشر ثقافة الجن والعفاريت، بل والإساءة للرموز السياسية لثلاث دول عربية شقيقة.
في الميديا الحالية "الرفاهية" هي المسيطرة، لا تحرك إلا في نطاق ضيق.. التقليد أمر تقليدي.. مسلسلات هندية ساذجة ذات قيم ثقافية ودينية مختلفة وبعضها يروج لزواج المحارم تذاع ليل نهار، وأخرى تركية لا تختلف عنها كثيرًا، والجميع يبدو متفقًا على أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تموج بها مصر أهميتها تأتي في مرحلة لاحقة.
في مصر، يجب أن تبدأ يومك مع عالم "بطنك" مع فضائيات الطبخ، تتباري في الاستفزاز بمنتجات لا تناسب إلا الصفوة من بط محشو بفراخ محشوة بدورها بحمام محشو بمكسرات.. وهلم جرا، ثم نظريات في الطبخ يتولى فيها الطباخ دور عالم الكيمياء يتهكم على من أخطأ بالوصفة، أو تأكيد مكوناتها الذرية التي يجب ألا تختل ولو بنسبة واحد في الألف.
لم نتعثر في فيلم وثائقي عن الاكتشافات الأثرية توضح لنا ما قيمتها أو عظمة الحضارة الفرعونية.. في ظل الحرب على الإرهاب، لم نر أفلامًا تسجيلية عن بطولات الجنود آو عن ٩٥٥ معركة خاضها الجيش المصري منذ توحيده في عهد نارمر، ولم يهزم إلا في ١٢ منها فقط.
عندما طالب الرئيس الإعلام بالقيام بدوره في تثبيت الدولة، تناسى الجميع الاقتصاد برغم أنه رأس حربة "الهجوم الرئيسي" على الدولة، لم نر تقارير جادة مبنية على الأرقام والمعلومات والتحليل عن الاقتصاد المصري، أو عن جدوى الإصلاح الاقتصادي، أو مشكلات القطاع العام المصري أو تاريخه، أو حتى تقريرًا حول محاولات هيكلته، وفكرة الطرح بالبورصة، وتقييمها من وحي التجارب السابقة.
لم يعد هناك برنامج تنموي واحد يقدم أو يعرف المواطنين حقيقة ما يعيشونه، يجذب الانتباه للمشروعات القومية يوضح أهدافها، يشرح جدواها الاقتصادية، يخلق مواطنًا واعيًا، لم يعد هناك برنامج للفلاح يرشده ويوجهه في ظل توقف وزارة الزراعة عن تعيينات المرشدين الزراعيين الجدد منذ ٣٢ عامًا.
لم يفكر أحد في برامج للحماية المدنية، تتناول كيف يحمي كل مواطن بيته ومصنعه أو ورشته من الاحتراق، أو يوضح أكواد الحريق؛ لمواجهة الحرائق المتكررة التي نجم شباكها الدائم "الماس الكهربائي"، والتي تتزايد في الصيف.
حتى برامج الأطفال، لم تعد هناك عقول تطرح منتجًا يجذب ويناسب عقلية أطفالنا، فباتوا فريسة لمضامين خارجية، وباتت إحدى القنوات ضيفًا دائمًا على كل البيوت، برغم عشرات الدراسات التي تحذر من إصابتها للأطفال بالتوحد، والتسطح الفكري.
في إعلام "المال" توقع كل شي، سترى بيومي فؤاد محللًا لمباريات الأهلي، وستجد دكتور الأعشاب مقدمًا لبرنامج التوك الشو، ستجد فنانات يقدمن البرامج السياسية.. سترى دمى تتحرش بأخلاقيات المواطن، وتسأل عن لون الملابس الداخلية للضيوف، ستجد برنامجًا جديدًا يقدمه ثلاثة فنانون بينهم اثنان لا يحملان جنسية مصر يروجون لأفكار شاذة.