صديق عزيز أرسل لي رسالة على الواتس مفادها أن طبيبًا مصريًا اخترع علاجًا سحريًا للسرطان، بدون أى تدخل جراحي أو كيميائي، وكيف أن هذا العالم واجه تعقيدات روتينية في مصر حالت دون خروج حلمه للنور، فكان أن تخاطفته دول أخرى عربية وأجنبية، لكنه مازال يحلم بأن ينشئ مراكز لعلاج المرض في مصر، ليتمكن من محو آلام المرضى في مصر والوطن العربى والعالم!!
هذا موجز سريع لرسالة الصديق، وكم تعجبت منها؛ لأنها نفس الرسالة التي كنا نتلقاها منذ سنوات، وهي عينة لكثير من الرسائل التي مازلنا نتلقاها منذ سنوات، وتزداد خطورتها في ظل التداول "الأعمى" لمئات الرسائل التي تحمل في ظاهرها مضامين علمية تدغدغ مشاعر المرضى، وهي في حقيقتها مخالفة تمامًا لكل قواعد البحث العلمي المتعارف عليها، ولا تحمل في طياتها أي خير للناس، بل وربما أضرتهم كثيرًا..
ففي الفترة التي تشرفت فيها برئاسة القسم العلمي لـ"جريدة الأهرام" كثيرًا ما كنا نتلقى مكالمات من مصريين يزعمون أنهم قد سجلوا اختراعًا ما لأي مركب، وأنهم يريدون أن يزفون البشرى للناس، لمجرد أن شخصًا ما ذهب لمكتب البراءات والاختراعات في أكاديمية البحث العلمي، وأدعى أنه اخترع "إكسير الحياة"!
وتناسى أي مخترع كان أم مدعيًا، أنه من الطبيعي إن زعم أنه اخترع شيئًا ما أن يطلب منه القائمون على المكتب تسجيل بياناته وتفاصيل عما يزعم أنه اختراع، لأنهم سيحولون هذا الكلام إلى المتخصصين ـ إن كان به ما يستحق ذلك ـ لإبداء رأيهم في مدى صحة هذا الكلام أو أنه مجرد "مزاعم" لا أصل لها في ميزان العلم، ولاترقى لدرجة الفكرة، فما بالنا لو كان الأمر اختراعًا..
المهم أن هذا "المخترع الوهمي" يظن أنه بمجرد تسجيل بياناته أنه بذلك نال صك البراءة وأصبح مخترعًا، وهذه هي النوعية التي نعاني منها كثيرًا، وبكل أسف فإن غالبيتهم العظمى يجهلون أن للبحث العلمي أصولًا وقواعد، ويزداد الأمر خطورة حين يتعلق بصحة الناس، فلا بد من مرور البحث بمراحل عديدة حتى يصل في النهاية إلى مرحلة استخدام البشر له..
لسنا ضد الأفكار والابتكارات والاختراعات التي تعالج أوجاع الناس وتخلصهم من آلامهم، خاصة المستعصية منها، ولكن ببساطة شديدة كيف لنا أن نصدق شخصًا ما يزعم أنه قدم علاجًا سحريًا لمرض ما بمفرده، بل وفي غير تخصصه، في حين أن أي دواء من العلاجات الحديثة اليوم حتى يصل للمريض يكون قد تكلفت أبحاثه مايقرب من المليار دولار واستغرق الوصول إليه سنوات من البحث والدراسة على يد فريق كبير من الباحثين..
هذه المشكلة ليست محلية فقط، بل عالمية، وبكل أسف صارت وسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة الأبرز لترويج الدعايات عن أدوية وهمية، تستنزف المرضى وتُعجل بحياتهم..
ولايتوقف الأمر عند ذلك، فكثيرًا ما تطالعنا الصحف والفضائيات والمواقع الإلكترونية كل يوم بمئات الأخبار الطبية والعلمية، التي يتنوع محتواها ما بين دراسة عن مرض وكشف علاج.. فكيف يمكنك تمييز الأخبار الصحيحة منها والمزيفة؟
هذه مجموعة من الإرشادات للكشف عن مدى صحة ومصداقية الأخبار الطبية والعلمية، منها:
الموقع أو الفضائية أو الصحيفة التي نشرت المادة؟ هل هذه الوسيلة الإعلامية عريقة وجادة؟ وهل هو موقع لجريدة معروفة عالمية وذات مصداقية إخبارية أو موقع لمنظمة معروفة مثل منظمة الصحة العالمية، أو إدارة الغذاء والدواء الأمريكية أو الوكالة الدولية لأبحاث السرطان أو الجامعات العريقة مثل هارفارد؟ أم موقع لمدونة شخصية مجهولة.
هل الموقع معروف بنشره مواد علمية دقيقة مثل موقع www.sciencedaily.com أو مواقع لصحف عالمية شهيرة مثل الواشنطن بوست وغيرها؟
إذا كان الموقع الذي نقل المعلومة دقيقًا، عليك أن تنظر إلى الخبر نفسه، لتعرف أين نشرت الدراسة، هل في مجلة طبية محكمة معروفة مثل لانسيت؟ أم ما زالت الدراسة قيد المراجعة ولم تقبل للنشر؟ أم نشرها الباحث فى دورية أو مجلة غير علمية أو لاتخضع للتحكيم العلمى..
واعلم دائمًا صديقي القارئ أن كلمات من عينة "كشف العلاج السحري" أو "أخيرًا.. ستتخلص من آلامك المستعصية".. أو "اكتشاف علاج شاف لمرض السكر.. أو "لا علاج جراحيًا بعد اليوم لإزالة الغضروف.." هذه العبارات عادة تكون مواد إعلامية خالية من المصداقية.
وحتى لو كانت الدراسة الطبية صحيحة، فهي تبقى دراسة، أي لا يتم بناء قرارات علاجية عليها، بمعنى أنك لن تجد العلاج في الصيدليات فور الإعلان عن الدراسة، وعادة عشرات الدراسات تؤدي مجتمعة في النهاية إلى وضع توصية رسمية من المؤسسات الطبية مثل منظمة الصحة العالمية وغيرها، وبعدها تبدأ شركات الأدوية في طرح الدواء بعد التأكد من مروره بكل مراحل الاستخدام الآمن له..
والأهم من ذلك كله هو أن تراجع طبيبك، وأن تناقش معه الجديد، هذا إن وجدت فرصة لذلك، ولا تتخذ أي خيارات علاجية أو وقائية فقط بمجرد قراءة نتائج دراسة ما، فصحتك تاج على رأسك لاتسمح لأي أحد أن يعبث به أو يمسه بسوء...