Close ad

"اخرستوس انستي"

16-4-2017 | 21:24

صحيح أن من رحم المحن تولد المنح، ومن غسق الليل ينبلج الفجر، ومن رحم الصبر يولد النصر، لكن الأقوال المأثورة لا نشعر بأثرها إلا على أرض الواقع، وعقب جريمة تفجير الكنيستين بطنطا والإسكندرية، ظهرت برغم المأساة روح جديدة، تجلت في أوجها بالأمس، خلال احتفال المسيحيين بعيد القيامة المجيد.

واستطاع الشعب المصري أن يخرج من محن عديدة من قبل، فعبر هزائم وحروبًا وخرج منتصرًا، لم يتلون أو تتغير لغته باحتلال عثماني أو فرنسي أو إنجليزي، لم تنطبع عليه روح ثقافية واحدة، ومرت عليه الحضارات فشبكها في عقد نفيس وارتداها قلادة في عنق حضارة علمت العالم، وأرخت للإنسانية التاريخ، فإنه أيضًا يفرز عمالقة عظام يلتف حولهم الشعب بهالة من الحب والتقدير والاحترام.

وبالأمس، رأينا زعيمًا بروح مصطفي كامل، وسعد زغلول يولد من جديد، زعيمًا فريدًا من نوعه، فالقائدالشجاع لا يظهر إلا عقب المحن، التي تختبر الجلد والصبر وحسن اتخاذ القرارات، عن البابا تواضروس الثاني اتحدث، الذي وضع حجرًا جديدًا في أساس كونه قيمة وطنية خالصة؛ كأحد أهم عمدة الخيمة التي يستند إليها الوطن.

ليس فقط قيمة دينية كبابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، ولكن كرمز وطني مصري لكل المصريين، وهي مكانة لا تمنح بأوسمة، ولا قلائد، بل تقلدها الشعوب لمن تلتف حوله، تستمع لإلهامه يشحذ الهمم ويوحد الصفوف.

ككل الزعماء الوطنيين سجلت عظة البابا بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية في قداس عيد القيامة بالأمس كانت ولا أروع، بكلمات صادقة هادئة مؤمنة مصرية وطنية حزينة.. زادت محبته واحترامه في قلوبنا جميعًا.

درس في حب الوطن نقله البابا تواضروس الثاني، في كلمته: "نصلي من أجل مصر، كي يحفظ الله هذه البلاد، فمصرنا الغالية التي نتربى ونعيش على أرضها هي وطن غال، وربما أقول أغلى الأوطان، ولا أقول هذا لأنني مصري، بل لأن هذا هو الواقع".

وتابع قائلًا: السيد المسيح عندما تعرض للاضطهاد لم يجد ملاذًا آمنًا إلا في مصر، وجاء إليها وعاش وتجول فيها بمنتهى الأمان، وعاشت مصر دائمًا بلاد الحضارة، وبلاد النيل، وبلاد الناس الطيبين، وبلاد الوسطية والاعتدال فى كل شيء".

وكان مشهد قداسة البابا يوم الانفجارات الخسيسة "متكأً على عصاه "هي الصورة الأكثر تداولًا التي أبكت المصريين جميعًا، مشهد أوجع قلب مصر، وتألم الجميع لألمه.

وتلت الحادث مواقف اختبرت هدوء البابا وقوته وستخلد مواقفه التي بدأها بعد حرق ٧٢ من الكنائس المصرية، فخرج معلنًا مقولة: "نعيش في وطن بلا كنائس خير من أن نعيش في كنائس بلا وطن.

ثم كان القرارالأخير للبابا عقب تفجيرات الإسكندرية وطنطا، بمنع الاحتفالات بالعيد الأكبر للمسيحيين والاكتفاء بالقداس، وفتح الكنائس لاستقبال العزاء يوم الأحد في يوم العيد، وجاء الرئيس عبدالفتاح السيسي الخميس الماضي، مستبقًا الجميع مقدمًا واجب العزاء في أبنائه الذين سقطوا ضحايا المجرمين وحروب الوكالة التي تديرها أجهزة مخابرات ودول تريد لمصر أن تركع، فإذا بقرار البابا الذي اتخذه بأن العيد لن يكون موعدًا ملائمًا لاستقبال المعزين، معلنا أن السبب عدم رغبته في امتزاج التهاني بالعيد بالتعازي في الضحايا، ولم يعلن أنه لم يرد أن يثقل على المواطنين أكثر، ولا على قدرات الأمن الذي تم استنفاره في ربوع الجمهورية؛ ليؤمن ويحمي في كل أنحاء البلاد، وليترك بقراره الحكيم لبراءة الأطفال عيدهم الذي يجب أن يظل رمزًا للاحتفال لغد في الأمل والنور العائد، واكتفى قداسة البابا بعزاء الرئيس عن مصر كلها.

وجاءت الحكمة في أوضح صورها في العظة التي ألقاها في عيد القيامة، وأثارت عددًا من الشباب المسيحي المتحمس الذي أرادها مهددة متوعدة، وانتقد كونها متسامحة، وأعلنوا رفضهم استقبال الشخصيات العامة هذا العام في الكنيسة، ولهؤلاء أقول، ألم تروا أن وجود أهم قيادات الدولة والحزن الصادق البادي على وجه أبناء الوطن، كانت رسالة مهمة جدًا لتوحد الحزن والألم والأمل.

دعت العظة المتفردة للبابا إلى استلهام روح المسيح ابن مريم والاقتداء به، كانت أعظم نموذج للمحبة والعطاء والفداء والوطنية، رسالة بأن الحقيقة قد تموت، لكنك لن تنجح في دفنها للأبد، ليعلمنا جميعًا درسًا من روح احتفال إخوتنا المسيحيين بعيد القيامة أن النور سيسطع من جديد، والأمل قائم بروح الحق والعدل.

ولن أذيع سرًا أن الأسر المصرية المسلمة جلست بالأمس بكامل أفرادها ملتفة حول قداس وعظة عيد القيامة، تستمع لكلمات البابا وحكمته التي أبكتنا، لكنها أيضًا أمدتنا بقوة جديدة ضد أي إرهاب أراد أن يقضي على النور في حياتنا.

تعلمنا أن حرب الإرهاب ليست فقط في منع التفجير والقتل باسم الدين، أو اتخاذ التدابير الأمنية، لكن الأهم أننا نمنع قتل روحنا الوطنية المتحدة المحبة للحياة.

وكان "كيد المصريين" لكل قوى الظلام، والذي تجلى في أنه - ولأول مرة - يتبادل المسلمون مع المسيحيين التهاني باللغة اللاتينية، وتعلمت كلمات جديدة لم أكن أعيها، برغم تعلمي في مدارس الراهبات، اللاتي كن يعاقبننا بالمناسبة على عدم الالتزام بالصلاة، وخصصن حجرة بالمدرسة كمسجد للفتيات.

الآن وجدتني اكتب لصديقاتي وإخوتي المسيحيين:
"اخرستوس انستي".. "اليسوس انستي"، وتعلمت أنها ترجمة لمقولة "المسيح قام.. بالحق قام"، اختلاف العقيدة، لم يمنعني أو يمنع غيري من المسلمين المصريين من البحث عن الكلمات الدينية المسيحية والاستشهاد بها، لم يتأثر إيماني، ولا إسلامي ولا اهتزت عقيدتي وتوحيدي، بل شعرت بتطبيق إسلامي حرفيًا، وأنا أحب لأخي في الوطن ما أحب لنفسي، "حب لأخيكً ما تحب لنفسك"، كما أوصانا الرسول محمد صلي الله عليه وسلم؛ لذلك خرج الأمل من رحم الألم، ومرة جديدة يحفر المصريون بدماء معاناتهم تاريخ البشرية.

 خرج المسيحيون في زحام فاق كل السنوات الماضية، ذهبوا للكنائس التي شهدت حضورًا لافتًا؛ ليعلنوا لن نخاف لن نهرب سنحتفل ونلبس جديدًا، ونخرج ونجتمع بالأهل والأحبة.

نعرف أن الإرهاب لن يستسلم وسيسقط منا ضحيا أبرياء آخرين، لكنه لن ينجح في أن يصيب روحنا المُحبة للإله الواحد وللحياة ولإعمارها، كما أمرنا الله تعالى في كل الأديان.

أقيمت الصلوات بالعيد في كل أرجاء الوطن، حتى المستشفيات العسكرية التي يعالج فيها المصابون، لأن خبطات الإرهاب الموجعة لن تمنعنا من الطبطبة على بعضنا البعض، فلن يجبر كسرنا إلا أطباؤنا، ولن يعالج جرحنا إلا الأيادي الطاهرة النقية لأهلنا الطيبين.

وعيد سعيد لكل أهلي المصريين المسيحيين، وليحمي الله رجال القوات المسلحة والشرطة، الذين يسهرون على أمننا لنستمتع نحن باحتفال مصري خالص، شم النسيم الاحتفال الذي قدمه المصريون الفراعنة للعالم قبل آلاف السنين.

اقرأ أيضًا:
نشيد وطني جديد

ساعات تفصلنا عن الاحتفال بالذكرى الثامنة والستين لثورة ٢٣ يوليو تاريخ انتهاء الملكية وإعلان الجمهورية، يمر الاحتفال هذا العام في ظروف استثنائية يواجه فيها

الشئون المعنوية كما يجب أن تكون

في طريقي اليوم لحضور الندوة التثقيفية بحضور الرئيس السيسي، والتي حملت عنوان "أكتوبر الإرادة والتحدي،" كان يسيطر على فكري المسئوليات المهنية والأسرية، والصراعات

الأكثر قراءة