كان المشهد مؤثرا وكاشفا لما وصلنا إليه من التدني الفردي والمؤسسي في التكافل والتضامن عندما جلست ابنة موظف كبير كان في يوم ما يدير نصف المؤسسة خرج للمعاش ولم يعد المعاش يكفي أسرته أو علاجه، ذلك أنه بعد عام واحد أصيب بذبحة ودخل نادي مرضي القلب واستدعي الأمر إجراء عملية قلب مفتوح تتكلف ٦٠ ألف جنية، وبالطبع لم تعد ميزانية المؤسسة قادرة علي المساهمة في علاج الرجل، ولم يكن أمام أسرة الرجل سوي التسول.
وتحكي زميلة للرجل أن ابنتها ذهبت تصرف بعض الأدوية من المؤسسة فطلب منها المسئول أن تحضر الأم لكي يتأكد إنها لا تزال علي قيد الحياة رغم أن المؤسسة تتكفل بدفع ١٠٪ فقط من روشتة الأدوية.
ولنا أن نتصور مدرس محترم أفني عمرة في صناعة جيل خرج لم تقدم له الدولة معاشا لا يكفي لشراء أدوية الشيخوخة، وهو في نفس الوقت لا يستطيع العمل لتدبير نفقات المعيشة ولم تعد الجنيهات التي كانت تستره قبل إغراق الجنيه أن تضمن له الحد الأدني من الحياة الكريمة، أو أن يجهز ابنته لدرجة جعلت الرجل يقول أنة خرج ليس للمعاش ولكن لغرفة الانعاش.
ومع كل إعلان للدولة عن زيادة الرواتب تسقط منها متعمدة زيادة أصحاب المعاشات ظنا منها إنها تمن عليهم رغم أنها استولت علي نحو ترليون جنيه بالخداع والتدليس في أكبر جريمة سطو علي شقي وتعب السنين لأصحاب المعاشات أيام الوزير بطرس غالي، وأصبح أرباب المعاشات هم المنسيون في مصر في كل شيء في رسالة شديدة القسوة لمن ينتظر المعاش أن يُؤْمِن غده بأي طريقة حتي ولو بالطرق غير المشروعة.
وبينما يؤكد الدستور أن المصريين متساوون في الحقوق والواجبات هناك فئات مستثناة من أحكام الدستور ولها قوانينها وتشريعاتها كالقضاة الذين يخرجون علي المعاش في السبعين وعندما حاول أحد النواب التقدم بتشريع يعيد الأمور لنصابها بجعل سن المعاش لهم الستين خرج مصدر قضائي يقول إن هذا الكلام يثير البلبلة.
يحدث ذلك في نفس الوقت الذي تسرب فيه الحكومة أخبارا لتسريح مليون موظف، علما بأن نحو ٢٠٠ ألف موظف يخرجون سنويا للمعاش وأي خطة محكمة للدولة كفيلة بالقضاءعلي زحمة الموظفين التي ابتكرتها مصر الاشتراكية بالإضافة لعدة أساليب أخري كالمعاش المبكر لمواجهة تلك الزحمة وليس بالقسوة المفاجئة الآي يفكر فيها بعضهم.
ولكن يبلغ العجب مداه حين تكتشف أن الدولة نفسها فكرت في رفع سن المعاش لـ٦٥ سنة بشكل تدريجي وذلك بعد دراسات إكتوارية وارتفاع معدلات الأعمار للرجال إلي ٧٤ سنة، وللنساء إلى ٧٨ سنة ومع هذا فقد خسرت مصر كثيرا من إحالة المفكرين والمبدعين للمعاش في عدة مناصب كان وجودهم فيها أكبر إضافة، فهناك فئات لا يمكن الاستغناء عنهم بالمعاش كالأم والأب والأطباء والصحفيين والمفكرين ذلك أن السنوات تزيدهم خبرات وتصقلهم وتصبح تراكم السنون ذاتا للوطن.
ولا يمكن لأمة أن تعيش بحماس واندفاع الشباب فقط وإقامة المهرجانات بتلك المبالغة وبصورة قد تعطي إشارات خاطئة للآباء والأمهات والكبار وكأنهم كخيل الحكومة وبدلا من تكريمهم والاعتراف بأفضالهم يظن البعض أن الكل يراهن علي رحيلهم وأنهم عالة علي الأبناء والمؤسسات التي صنعوها بأعمارهم وتلك أسوأ ختام من وطن لأبنائه لا يوقر الكبير وفِي نفس الوقت لا يرحم الصغير.