هل الفقر مرتبط بالإنسان أو البيئة؟! قضية شغلت كثيرًا من الفلاسفة في كل العصور، وهي أيضًا قضية التنمية بوصفها الوجه الآخر للفقر، ولكن الواقع أن كلا من الإنسان والبيئة يؤثران في الفقر والتنمية، وهذا يتوقف على نوعية الإنسان، ونوعية البيئة؛ من حيث هناك بلدان تعاني محدودية الموارد البيئية، ولكنها وصلت لأعلى درجات التنمية بفضل الإنسان، واليابان خير مثال على ذلك، والعكس هناك بلدان غنية جدًا بمواردها البيئية، ولكنها متخلفة لفقر البشر والنماذج كثيرة، وهناك بلاد تتمتع بوفرة وتقدم في كلا العنصرين البشري والبيئي، ومثال لذلك أمريكا، ولكن يبقى الإنسان دائمًا هو الأهم.
واذا عدنا لمصر فشعبها هم خير أجناد الأرض، وفقًا لحديث الرسول "صلى الله عليه وسلم"؛ ("إذا فَتَحَ عَلَيْكُمْ مِصْرَ؛ فَاتَّخِذُوا فِيهَا جُنْدًا كَثِيفًا؛ فَذَلِكَ الْجُنْدُ خَيْرُ أَجْنَادِ الْأَرْضِ"، فقال أبوبكر الصِّدِّيقُ رضي الله عنه: ولِمَ يا رسول الله؟ قال: "لِأَنَّهُمْ وَأَزْوَاجَهُمْ وأبناءَهم فِي رِبَاطٍ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ"). صدق رسول الله "صلى الله عليه وسلم".
وخير أجناد الأرض يعني ببساطة أن القوى البشرية لمصر على أعلى درجة من الكفاءة، ونوعية متميزة بين جميع الأجناس وعبر كل العصور؛ لأنهم في رباط إلى يوم الدين، وهذا ما أكده التاريخ الإسلامي؛ لأن جند مصر هم الذين هزموا التتار والصليبيين والبرتغاليين، هذا فضلًا عن التاريخ الفرعوني؛ حيث علَّمت مصر العالم القراءة والكتابة، وهنا بدأ التاريخ الحقيقي للبشرية والمعرفة والعلم، ومصر علَّمت الدنيا الزراعة، وهنا بدأ تطور الإنتاج والتكنولوجيا بصورة مدهشة؛ ولذلك جاءت مقولة (مصر أم الدنيا)؟
ومصر في العصور الحديثة ساهمت في الخمسينيات والستينيات في تحرير الوطن العربي وإفريقيا والعالم الثالث.
ومصر بتأميم قناة السويس - كما يقول جمال حمدان - حررت ثروات وبترول العالم العربي والعالم الثالث، فمصر قاعدة لتحرير الأوطان والأراضي والثروات في العصور الحديثة، بل وساهمت بقوة مواردها الذاتية في نشر التعليم والثقافة والطب والعلاج والفنون لمعظم الوطن العربي وإفريقيا، وبلدان العالم الثالث؛ حيث كان يخرج المعلم والطبيب والأزهري على نفقة مصر لخدمة العرب والأفارقة في العديد من البلدان، كل ذلك خلال حروبها مع إسرائيل، هؤلاء جميعًا جند مصر أغنياء بعقولهم وثقافتهم وخبراتهم، ثم تأتي البيئة المصرية؛ حيث يمكن تناولها من خلال بعدين الأول الموقع:
وموقع مصر أشار إليه الحديث الشريف بشكل غير مباشر في قوله؛ لأنهم في رباط إلى يوم الدين؛ حيث قد يكون سبب هذه الحروب المستمرة هو موقع مصر المتميز وسط العالم؛ فهذا الموقع بسببه تسعى معظم الدول الكبرى إلى السيطرة عليه، وهذا مما يؤكده نابليون بونابرت بقوله: "قل لي من يسيطر على مصر، أقل لك من يسيطر على العالم"؛ فمصر وسط قارات العالم تقريبًا فهي في إفريقيا، وبجوار آسيا وأوروبا بشكل مباشر، وتعتبر نقطة مركزية يسهل منها التوجه إلى أي مكان في العالم، وهذا بجانب سهولة الاتصال والتجارة ونقل التكنولوجيا منها وإليها.
وإذا رجعنا للموضع: فمصر عبر تاريخها - حتى الحديث - تتمتع بموارد متعددة، وقديمًا قال هيرودوت "مصر هبة النيل"؛ لأهمية وثراء الموضع المتمثل في نهر النيل - رغم إهماله - ولكنه يؤكد ثراء الموضع، فمصر هي التي قال عنها المولى تعالى (..اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ..) (البقرة 61)، ومصر تملك تاريخًا حضاريًا يمتد آلاف السنين، وتملك نحو نصف آثار العالم، وبها قناة السويس، والسد العالي، ومناجم ذهب، ومعادن، وثروات بترولية، وغاز طبيعي يقال إنها سوف تصبح أكبر مصدر للبترول والغاز في المنطقة خلال نحو سنتين من الآن، فهذا اقتصاد قوي متعدد القوى، مابين زراعة، وآثار، وسياحية، وبترول، وقناة تم تطويرها, وبرغم ثراء البيئة المصرية؛ سواء من حيث الموقع أو الموضع، فإن الثراء الحقيقي لمصر هو شعبها، والمواطن المصري البسيط؛ فهو الذي شيد الأهرامات، والآثار الخالدة، وهو الذي علم الدنيا القراءة والكتابة والزراعة، وهو الذي حفر قناة السويس، ثم عبرها عام 1973 في معجزة عسكرية بكل المقاييس، وهو الذي روض النهر ببناء السد العالي، وهو الذي حرر أراضي وثروات العالم الثالث، وساهمت القوى المصرية الناعمة في تعليم الأشقاء وعلاجهم، ونشر الفنون والثقافة في العالم العربي؛ ولذلك كانت السنيما المصرية من أهم عناصر الدخل القومي لمصر.
ولذلك فمصر غنية بأبنائها وبالجغرافيا؛ سواء موقع أو موضع، وبعلمائها وفنانيها وبالتاريخ وبالدين؛ يكفي أن أبناءها هم خير جند الأرض..... فهل بعد هذا ثراء؟ ومن حيث المال مدخرات المصريين في البنوك المصرية تعدت 2 تريليون جنيه، وجمع المصريون أكثر من ستين مليار جنيه للقناة في أسبوع، وتحويلات المصريين تجاوزت الـ20 مليار دولار سنويًا؛ ولذلك إذا كانت هناك أزمة معاصرة، فهذا يرجع إلى أن هذا الإنسان أو المصري المعاصر لم يجد الاهتمام الكافي، ويعاني مشكلات متعددة من حيث غياب العدالة، أو الفقر، أو إهمال التعليم والصحة وانتشار الفساد، أو غيرها من الأسباب التي تحتاج للدراسة، والعمل على إزالتها ليعود المصري المعاصر، إلى جوهره ومعدنه الأصيل، وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر وهو: لماذا يصنف المصري من أفضل جيوش العالم، في حين يأتي التعليم والصحة في مراكز متأخرة؟ والقضية ليست مجرد شعارات وطنية أو فلسفة، ولكنها قضية محاولة تشخيص سليم للواقع؛ لأنه إذا غاب التشخيص السليم لمشكلة المصري اليوم فلا يمكن أن يكون هناك علاج أو تقدم، وتستمر الأخطاء والتفسيرات الخاطئة وتتفاقم المشكلة؛ لأن التشخيص السليم للمشكلة هو نصف طريق العلاج والنجاة، لأن مشكلة مصر ليست في الموارد أو الاقتصاد، ولكن المشكلة في العقبات والمشكلات، التي يعانيها الأنسان المصري اليوم.
فهي مشكلة بشرية واجتماعية ونفسية، وليست اقتصادية، والمؤسف أن سياسات الحكومة تعمق من المشكلة؛ والدليل تدهور ميزانية التعليم والصحة والبحث العلمي، وغياب علماء الاجتماع والنفس عن المجلس الاستشاري لتنمية المجتمع، ومن هنا أتمنى أن يكون الإنسان المصري هو المشروع القومي الأول لمصر؛ حتى نصل بالمعلم، والطبيب المصري، إلى نفس ترتيب الجندي أو الجيش المصري.
كاتب المقال:
أستاذ علم الاجتماع البيئي ـ جامعة عين شمس