ماذا تبقى من يناير، غير الوجع ولعنات الخيانة ومشانق التكفير. نحن ــ الناجين من مذابح اليقين وفتنة الدجال وحصار الخوارج ــ لم ندخل الجنة، ولم نسبح فى أنهار العسل. صلبونا ألف مرة على أنين الفقراء وآهات المقهورين. هل كنا على خطأ حين حلمنا بوطن سعيد؟. هل كان الحلم الصواب فى الوقت الخطأ؟، أم كان الحلم أكبر من قدراتنا ومعرفتنا وتجاربنا؟، ماذا فعلنا بالوطن وماذا فعل به الآخرون؟.
«الله وحده أسقط النظام».. كنت أتمتم بهذه العبارة عشية خطاب التنحى بينما أرقب فرحة الانتصار فى العيون.. الميدان يعج بمئات الألوف من الحالمين بصباح جديد.. كان مدهشا حقا أن يخترق سمعى صوت جماعى صادر من إحدى الخيام، مرددا نفس العبارة: «الله وحده أسقط النظام».. لم أتذوق فى حياتى معنى التوحيد أو أشعر بخفة، كما هذه اللحظة.. خفة أن تصير جزءا من حركة كونية أكبر لعدل ميزان الحق والتاريخ. يا إلهى: أى سر جمع بين أرواح الحالمين والمقهورين والتائهين، وكيف توافقت إرادتهم مع إرادتك إلى هذا الحد الذى جعل من «جمعة الغضب» يوما للغضب، ومن «جمعة الرحيل»، ساعة للرحيل؟.
كانت لحظة استثنائية لا شك، إلا أننى لم أتصور بعدها بشهور قليلة، أن يأخذنى هذا «النوستالجى» المقيت والحنين المؤلم، لزمن مبارك.. أنا العاجز عن قطع الحبل السرى مع الحاكم الأب، لست بالطبع كشباب يناير.. فقط أنا «ينايرجى» من منطلق حبى للحق وكرهى للظلم.. أعترف أمامكم الآن أن عاطفة ما تجاه مبارك تملكتنى حتى بعد يناير لسنوات، ربما بحكم «عشرة السنين» أو بمنطق تعلق الضحية بالجلاد كما خطتها متلازمة «ستوكهولم».. لا أدرى، كل ما أعرفه أننى من شريحة جيلية اختلطت لديها مشاعر التعاطف، بخيبات الأمل الطويلة فى إدارة مبارك الفاشلة للبلاد واختلال ميزان »الثروة والسلطة« فى يديه.. ومع الوقت تحولت هذه المشاعر المختلطة إلى غضب عنيف، لعجز هذا الرجل عن حماية عرشه وحمايتنا من أنفسنا وشبقنا منزوع القدرة، للحرية والحق والعدل.
كانت الأسئلة المكررة إلى حد الابتذال: لماذا رعى مبارك على مدى ما يقرب من ثلاثة عقود، وحوش التطرف والجهل والفقر والعشوائية؟. كيف أبدع فى تجريف مصر من السياسة والمعرفة؟، لماذا سمح للفساد بالتوغل إلى حد تخريب الأخلاق والمؤسسات؟، ولماذا تركنا عند أول لحظة تمرد فى عراء العجز، نواجه هذا المصير، مكتفيا بتهديده: أنا أو الفوضى؟.
فى هذا الوقت العابر، تحول الميدان، إلى «كعبة» نحج إليها فى المساء لاستنشاق نسيم الحرية، وفى الصباح نصلى على عتباتها المقدسة أملا فى التطهر الوطنى، أو حمدا على نعمة نجاة الروح من الانهيار.. هكذا كان حال شرائح من جيلى خنقها عفن دولة المحاسيب وتحكم شبكات النفوذ والولاء فى العباد والبلاد.. لكن نور الإيمان الذى خرج من رحم كفرنا الوشيك بقيم العمل والمعرفة، عاد ليملأ فضاء الوطن ويحرر الروح من سجن القهر وأسوار اليأس.. هكذا تصورنا فى لحظات نشوة وطنية وإنسانية عابرة، نحن المسكونين بالوعد.. وعد وراثة أرض مصر المباركة وحمل راية الخير والعدل والحرية لشعبها المكلوم.
ما الذى حدث؟، وكيف صرنا إلى ما نحن فيه؟، من الذى خان؟، ومن الذى تاجر؟، ومن الذى باع؟، ومن الذى اشترى؟..
من أى فراغ تسلل المسيخ الدجال متدثرا بعباءة الإسلام ليزرع الفتنة فى أرض التوحيد المباركة؟، كيف سمح آباؤنا للمقامر أن يفك قيود الدجال ويطلق سراحه من غيابات الجب، ليغطى به شروخ شرعيته ويطيل من عمر الاستبداد والقهر؟، كيف تركوا الدجال يكبر ويتمدد أمام أعيننا برعاية أجهزة استخبارات أجنبية وطوابير عمالة تسد عين الشمس؟، كيف سقطنا نحن فى غوايته، وتوجناه ملكا على عرش البلاد؟.
من أى خداع، برعنا فى تلفيق المبررات واجتراح التنظيرات الممجوجة، لنمنح أنفسنا شرعية أخلاقية للتحالف مع «أشباه النخب» من الدجالين والمحتالين وضاربى الودع والكومبارس والصبيان.. ألهذا الحد كنا رائعين فى تعاطى مسكنات السياسة، ومنشطات الوهم؟.
من أى ضعف، صدقنا وآمنا وأحببنا، شخصا كنا نراه يفزع من الوقوف فى الشارع تحت حماية شباب شجاع لمدة 15 دقيقة فقط؟، كيف تخيلناه «غاندى» لمجرد أنه استعار نظارة زعيم الهند الخالد، واقتبس عباراته؟، كيف خدعنا أنفسنا كل هذا الوقت، رغم أنه فى كل اختبار كان يفضل بشفافية واتساق مع الذات يحسد عليه، إنقاذ صورته أمام العالم كداعية سلام، تاركا مريديه حفاة عراة تحت ويلات المطر؟.. أنا لا أكرهه ولا حتى ألومه.. بل أكره عجزنا الذى قادنا إلى هذا الحد من الثمالة والمراهنة دوما على المتاح والحد الأدنى. من أى خلل إدراكى، قادنا نزق المغامرة وخداع الحشود، إلى أننا قادرون على استدعاء الوحش وترويضه فى الوقت نفسه؟، كيف صعدنا للجبل، وحين لاحت بشائر النصر الكاذب، تركناه عاريا إلا من خيباتنا؟.. نحن الذين دخلنا ساحة المعركة بصدور عارية، دون علم أو سلاح أو تنظيم أو قائد أو خبرة أو مناورة أو استطلاع أو خطة أو حتى فهم لمعادلة القوى.
هل كنا على خطأ؟، الحق أقول: لا. لكننا أيضا لم نكن على صواب مطلق. كنا وما زلنا أبناء لحظة انحطاط فى مسيرة أمة عظيمة ذبحها الاستبداد، وقهرها موقعها الفريد فى مفارق العالم وبؤرة الصراع الإمبراطورى.. كنا وما زلنا أبناء هذا المجتمع بكل جهله وعجزه وفقره وتطرفه، وبكل عراقته ونبله وسماحته وصموده وحبه للحياة أيضا. كنا ومازلنا أبناء دولة فشلت على مدى 200 عام، فى الإجابة عن أسئلة التقدم والحرية والعدالة والاستقلال. لم نكن «زرقاء اليمامة» ولا ورثة الأنبياء المبجلين، كما لن نكون يوما من الملائكة المقربين. كنا وما زلنا ببساطة أنفسنا بكل فجورها وتقواها، وصدقها وكذبها، وطهرها وعربدتها.. نحن أبناء الوقت المختل، والتناقضات الصارخة، والتخلف المقيم، لم ندع يوما للمشاركة، فكيف يمكن أن نحاسب وحدنا على كل هذا الوهن وهذا العجز وهذا الفراغ؟!.