واقعة القبض على عصابة بيع الأعضاء التي حدثت قبل أيام، لم تكن الأولى، ولن تكون الأخيرة، وأخشى أن تكون ردود الفعل التي صاحبت الجريمة مجرد هوجة لا تلبث أن تهدأ، ثم نستيقظ من جديد على وقع كارثة أخرى.
هذه الكارثة تعيدنا إلى أجواء الممارسات غير المهنية، أو بالأحرى غير الأخلاقية التي كانت تتم في غيبة أي قانون ينظم عمليات زرع الأعضاء، حيث كنت في بداية التسعينيات شاهدًا على حالة انقسام واضحة كان يعانيها المجتمع الطبي في موقفه من عمليات زرع الأعضاء، حتى لا نتخلف عن الدول المجاورة، وللحد من أن تتحول مصر وقتها ـ وللأسف مازالت حتى اليوم ـ إلى سوق رائجة لزرع الأعضاء للمرضى العرب.
ففي الوقت الذي كان فيه أساتذة كبار أمثال الدكتور عبدالمنعم حسب الله أستاذ الكلى بقصر العيني، ويرافقه عالم الدين الدكتور عبدالصبور شاهين رحمهم الله، يعقدون الندوات لإقناع الأطباء بضرورة وجود قانون ينظم عمليات زرع الأعضاء، مثلما أجازته دول عربية عديدة، أبرزها السعودية، كان هناك من أساتذة قصر العينى من يدفع تلاميذه لإفشال هذه الندوات، ويحذر من خطورة عمليات زرع الأعضاء، برغم أن المؤسسات الدينية أبدت تفهمًا واضحًا، وأجازت إصدار مثل هذا القانون.
المصيبة الأكبر أن الكثيرين يجهلون أن لدينا قانونًا ينظم عمليات زرع الأعضاء، لكن لم يتم تفعيله، لغياب دور وزارة الصحة، بل وواجه حملات تشويه ومحاربة، والنتيجة أننا اليوم صرنا نحتل المركز الثالث عالميًا في تجارة الأعضاء، بعد الهند والصين، بناء على تقرير منظمة التحالف الدولي لمكافحة تجارة الأعضاء البشرية "كوفس".
وعلينا أن نقر ونعترف بأن هذا القانون هو الأسوأ حظًا في مصر؛ لأنه صدر في مارس 2010، وصدرت لائحته التنفيذية في 2011، ولم يتم تفعيله بالصورة المناسبة، بسبب الظروف التي مرت بها البلاد، ولو تم تفعيله سيتم القضاء على عصابات تجارة الأعضاء البشرية تمامًا؛ لأنه يضع قواعد صارمة لمراكز زراعة الأعضاء، ولا تستطيع تنفيذها سوى المستشفيات الكبرى، وعددها 38 مركزًا فقط، وبالتالي مراكز "بير السلم" لا تستطيع العمل وفقًا لآليات القانون، ويكون مصيرها الضبط في الحملات الأمنية.
والحديث اليوم عن قانونية زرع الأعضاء، ومدى مطابقتها لصحيح الدين يعود بنا إلى العصور الحجرية، فعجلة الزمن لا تعود إلى الخلف، وهذه التصريحات بلا سند، وليست سوى مناقشات سفسطائية لا طائل من ورائها أبدًا.
ومصر هي آخر دولة أصدرت قانون لزراعة الأعضاء، وعندما درست جامعة الدول العربية إصدار قانون موحد في المنطقة العربية حصلت على 80% منه من القانون المصري.
وبكل أسف فى ظل غيبة الأجهزة الرقابية، وغفلة وزارة الصحة، نشط أصحاب "الصفقات القذرة" الذين يستغلون حاجة البسطاء عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ تحت دعاوى "ظروفك صعبة.. بيع حتة من جسمك"، وينتزعون أعضاءهم مقابل أموال زهيدة، من دون أي وزاع من دين أو ضمير.
وعلى منظمات المجتمع المدني مناهضة هذه الدعوات بحملة مضادة؛ ولتكن "ظروفك صعبة.. أوعى تبيع حتة من جسمك"، مع تقديم الدعم والمساندة لمن قهرتهم الظروف؛ حتى لايقعوا فريسة لمن يستغلون حاجتهم للمال.
ولا خلاف إطلاقًا على أن بيع أعضاء الجسم بالفلوس حرام، وجريمة قانونية وأخلاقية مكتملة الأركان.. لكن" إللى حرام أكتر وجريمة أكبر".. أن يبقى عندك أصلًا فقير يضطر لبيع كليته أو فص من كبده "عشان يعيش بفلوسهم" هو وأسرته!
الواقعة الأخيرة، لا ينبغي أن تكون ذريعة لتجاهل أن هناك أطباء مصريين أكفاء أجروا - وفق ضوابط طبية وقانونية محكمة - 10 آلاف حالة زرع كلى في العام، و600 حالة زراعة كبد، وفق آخر الإحصاءات المتاحة في عام 2014، وهذه أرقام كبيرة جدًا.
وأنا شخصيًا أعلم أن هناك مستشفى في مصر، لايجرى أي جراحات لنقل الأعضاء إلا بعد تحريات شديدة الدقة، بل ومقابلات مطولة مع المتبرعين، وكلهم أقارب من الدرجة الأولى، حتى تضمن أنهم يتبرعون بأعضائهم بكامل رضاهم دون أي ضغوط من الأهل.
وأختتم بما بدأت، القضية التي كشفتها أجهزة الرقابة الإدارية مؤخرًا، لن تكون الأخيرة، ما لم يتم تفعيل قانون زرع الأعضاء، بكامل نصوصه، ودون تمييز بين مريض وآخر؛ لأن المرض لا يفرق بين غني وفقير، وأن مرضى كثيرين - اليوم وغدًا - ليس أمامهم من حل لاستئناف رحلة الحياة، إلا بزرع كبد أو كلية.