Close ad

الموت هربًا من الضرب

28-11-2016 | 16:48
الطفلة السمراء التي تميل ملامحها إلى "الصبيان" أكثر منها إلى البنات! ملامح تخفي حزنًا قديمًا، أو ربما فقدانًا نفسيًا ما.

"ريم مجدي" بطلة المصارعة ذات الـ15 عامًا التي ألقت بنفسها من السيارة هربًا من ضرب أبيها لها، ما الذي تراكم داخلها على مدى سنوات جعل موقفًا يتعرض له معظم الأطفال، سببًا في فراقها للحياة؟

موقف كان من الممكن أن يمر بوجع مؤقت لولا ترسبات نفسية وانفعالية حادة خلقت منه "القشة" التي قسمت روح طفلة لا يعلم بمعاناتها إلا الله!

هل قاست "ريم" مثل معظم البنات في المجتمعات العربية، تمييزًا عنصريًا كونها بنتًا؟ هل كان أباها مثلا يتمنى "ولدًا" يحمل اسمه، ويخلد تاريخه الرياضي بدلا من البنات الثلاثة اللاتي رزق بهن؟!.. أم أن "ريم" اختارت الرياضة نفسها التي تفوق فيها والدها "مجدي كابوريا" بطل مصر والعالم في المصارعة؛ لتكون قوية مثله، أو ربما لتهزم خوفها منه أو لتنافس تلك الصورة الأبوية القاسية؛ ما دفعها لتعلم رياضة المصارعة، ونيل بطولات مهمة مقارنة بصغر سنها؟!

تقول ريم: "كنت أتدرب مع الرجال لأظهر مهارة أكبر في التغلب عليهم من التدريب مع النساء".. كيف تولد لدى الطفلة هذا الصراع مع هويتها الجنسية ورغبتها في التفوق على الذكور؛ وليس مجرد منافستهم في لعبة هي في الأساس ذكورية عنيفة؟ هل كان الأب يعاني مرضًا نفسيًا يجعله سريع الاستثارة، ويفقد السيطرة على انفعالاته لهذا الحد؟

يقول الأب في حوار تليفزيوني معه بعد فوز "ريم" ببطولة إفريقيا: "حاولت على قد ما أقدر إني لا أوصل لها إن هذا إنجار كبير عشان دي بطولة صغيرة، وأنا عايزها تاخد بطولة العالم".

كلام الأب يشير إلى أسلوب تربوي سلبي يتبعه البعض مع أولادهم، وهو عدم التشجيع الزائد وأحيانًا التقليل من إنجازهم، بل وتحقيره ربما، بحجة ألا يثقوا بزيادة في أنفسهم، أو تقل دافعيتهم للخطوة المقبلة؛ حتى يلبوا التوقعات المرتفعة للآباء.

هل كان الأب يرى في ابنته صورته، التي تمنى التعويض بها عن اعتزاله المبكر بسبب إصابته في سن 28 سنة، بعد أن حقق أكثر من 50 بطولة محلية وعالمية؟!.. أم أنه يحمل مشاعر متناقضة تجاه ابنته؛ دفعته للقسوة عليها في الإهانة والضرب بدافع المحبة المشوهة لدرجة اضطرتها للهرب منه إلى الموت الذي كان ينتظرها على الطريق؟! موت لم يمهلها أياماً؛ لتفصح عما بصدرها، ولم يمنح الأب فرصة لمراجعة الذات.. موت بمثابة عقاب قاس لأب مضطرب سوف يعيش طوال عمره بحسرته، ربما يتعلم بعد فوات الأوان.

هل مرحلة المراهقة التي كانت "ريم" في بداياتها - بما فيها من تغيرات هرمونية وتشوش في المزاج وارتباك شعورها بذاتها - كانت مرحلة معتمة بالنسبة للأب والأم، ولم يعرفا تبعاتها، أو كيفية التعامل مع ابنتهما في هذه السن الخطرة والمقلقة، واحتوائها عاطفيًا ونفسيًا؟!

تقول الأم: "حدثت المشادة بين ريم وأبيها؛ لأنها أهملت التدريب وتركز أكثر على الفيسبوك".. هل هذا سبب كاف؟ أم أنها الصورة الأنانية التي يتعامل بها معظم الآباء مع أولادهم، يريدون لهم أن يكونوا امتدادهم في الحياة، ولا يسمحون لهم بأن يكونوا أنفسهم.. فربما أراد الأب أن تحقق ابنته حلمه الذي لم يكتمل!

للأسف ليس لدي معلومات كافية تؤهلني - كاستشارية نفسية - من تحليل كل هذه العلاقات بعمق.. لكنني في كل الأحوال أمام حالة مأساوية لطفلة اضطرت لإنهاء حياتها هربًا من جحيم العنف الأبوي، وربما سلبية الأم.

مفهوم خاطئ
ليست "ريم" حالة نادرة، فقد قابلت في عيادتي أطفالًا كثيرين ضحايا للعنف الأسري، نتيجة أن البعض لديه مفهوم خاطئ عن الأبوة والأمومة، أنها تعني التصرف في الابن كيف نشاء، وفرض وصاية شديدة القسوة عليه تمنحنا الحق في ضربه أو حبسه وأحيانًا يصل الأمر إلى كيه بالنار كنوع من العقاب! ويتضرر البنات أكثر من الأولاد من الضرب أو الإيذاء الجسدي؛ نظرًا للاعتقاد بأنها تحتاج للشدة في التربية أكثر من الولد الذي غالبًا "لا يعيبه شيء"!

جدار الكراهية
يعتقد أغلب الآباء أن الشدة والعنف وفرض السيطرة على الأبناء، هي طرق فعالة في حفظ علاقة متينة مع أبنائهم، ويتفاخر الكثيرون بأن أولادهم لا يستطيعون الكلام أو الشغب أو التحرك من أماكنهم في حال وجودهم، ولا يعلم الأب أنه يبني جدارًا من الخوف والكراهية داخلهم، بينما يهدم آخر من المحبة والاحترام.

إن عدم تفهم الآباء لطبيعة المرحلة العمرية التي يمر بها الطفل، وبالتالي يعجزون عن التواصل معهم بطرق أخرى غير العنف، فمثلًا في السن من ثلاث إلى خمس سنوات يكون الطفل عنيدًا ومشاكسًا، ويميل إلى عدم طاعة الأوامر؛ كنوع من لفت الانتباه، واكتشاف قوة الرفض داخله، كما أنه في مرحلة المراهقة يحاول فرض رأيه بالقوة، وكسب أكبر مساحة ممكنة من الاستقلالية ولو بسلوكيات خاطئة، هنا لا يجدي الضرب أو التحدي، إنما اللين والذكاء في التعامل وتفويت فرصة التصادم معه مباشرة.

صورة مثالية
إن الصورة المثالية التي يرسمها الآباء في أذهانهم عن الأبناء قد تؤدي بهما إلى الاصطدام كثيرًا، فالأب (أو الأم) يتخيل دائما أن واجب الابن هو الطاعة العمياء، وألا يحيد عن رأيه ومشورته ويمشي في الحياة كما يرسم له.

هذه الصورة النرجسية لا تدع للأب مجالًا لأن يفهم أن أبناءنا مختلفون عنا، وأننا مجرد حماة ورعاة لهم ولمصلحتهم، لكنهم لن يكونوا مطابقين حرفيًا لتلك الصورة التي تعبر فقط عن أحلامنا المفقودة، دون اعتبار لقدراتهم واختيارهم ورغباتهم، وهنا يكون الصدام عنيفًا، والضرب وسيلة لهدم ذلك الجسد الذي لم يحقق رغبتنا فيه.

آثار مدمرة
يخلق العقاب البدني أطفالًا ضعاف الشخصية، مضطربي الانفعال، لا يمكنهم التصرف في المواقف الحاسمة، أو التي تتطلب قرارات؛ لأنهم يشعرون بقلة الثقة بالنفس، وأنهم دائمًا معرضون للعقاب إذا أخطأوا، فيمتنعون عن حل المشكلة، أو اتخاذ القرار؛ حتى وإن كان صحيحًا تجنبًا للعقاب.

إن الطفل كائن ذكي، فحين يدرك أن العقاب متكرر ولا يمكنه صده أو الدفاع عن نفسه، يلجأ إلى سلوك أكثر استفزازًا وهو اللامبالاة وأحيانا طلب العقاب، كنوع من رد الفعل السلبي على الضرب، وكأنه يقول للأب: أنت تستنفد طاقتك في لاشيء، فالضرب لا يجدي معي، وإنما يتعبك أنت وحدك دون فائدة.

تزداد اضطرابات السلوك بين الأطفال الذين يتعرضون للضرب مثل: التبول اللاإرادي، والمخاوف المرضية، والعناد، والصدام المستمر مع الآخرين، والصمت الاختياري، كردود فعل مختلفة على واقع مرفوض ولا يملكون القدرة على تغييره.

على عكس ما يتوقع الآباء، فإن الأبناء يختزنون في أذهانهم صورة مشوهة ومهزوزة وضعيفة عن الأب (أو الأم) الذي يلجأ للضرب كعلاج لموقف ما، فهم يدركون بالفطرة الضعف الذي يختبئ خلف قوة وهمية، ويقلل ذلك من احترامهم لأبويهم، ويكثر بينهم عقوق الوالدين، فليس هناك رصيد كاف من المحبة يمنعهم من ذلك.

من أكثر النتائج سلبية، هو توحد هؤلاء الأبناء المضروبين بآبائهم، ليتحولوا فيما بعد إلى آباء عدوانيين يتخذون الضرب وسيلة أساسية في التعامل مع أبنائهم.. وكأنها دائرة مفرغة من العنف المجاني الذي لا يثمر إلا التشوه.

ما الحل؟
إن التعبير عن مشاعر الحب لأطفالنا وعدم تشويهها بالعنف، يجعل لنا الحق مستقبلًا - حين نكبر في السن - أن نتوقع منهم رد الجميل وحسن العشرة، فالعلاقة تبادلية، فنحن لم نضع بذور الحب في قلوبهم حتى نجني زهور الرحمة.. إنما زرعنا شوكا سيجرح قلوبنا.

تعتبر برامج التوعية التربوية والنفسية من الجوانب المهمة في علاج هذه الظاهرة، فقد نجد أبا حنونًا وعطوفًا، لكنه يجهل طريقة التعامل مع أبنائه، ولا يعرف كيف يتصرف في المواقف المختلفة، فيلجأ إلى الأساليب التقليدية أو طريقته الخاصة في التفكير دون الاعتماد على أسس علمية صحيحة.

لابد من وجود قانون رادع للآباء والأمهات الذين يستغلون حقهم في "التربية" أو "التأديب"؛ ليعتدوا نفسيًا وبدنيًا على أولادهم، وتتم معاقبتهم، وربما حرمانهم من الوصاية عليهم في الحالات المتطرفة من الإيذاء، سواء قام الطفل بالإبلاغ، أو أحد الأقارب، أو الجيران، وطالما كان الأمر مثبتًا ومكررًا ومتجاوزًا لأساليب التأديب بلطف، فمن غير المعقول أن يدفع الأبناء فواتير اضطراب الآباء، وتشوه شخصيتهم تحت ستار التربية.

من المهم إذا وجد الآباء أنفسهم عاجزين عن التواصل مع أبنائهم، زيارة معالج نفسي يساعدهم على وضع أسس تربوية سليمة، خصوصًا إذا كان الطفل يعاني أحد الاضطرابات السلوكية، هنا يكون دور المعالج ضروريًا؛ لأن الأهل لا يمكنهم التعامل بمفردهم، وقد يزداد الأمر سوءًا عند تدخلهم دون خبرة أو وعي.
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
التحليل النفسي لتصريحات المسئولين

"تكلم حتى أراك".. عبارة سقراط الشهيرة التي توضح أن الكلام، طريقة التعبير، انتقاء المفردات، الانفعالات المصاحبة، ولغة الجسد المُستخدَمة، كلها عناصر تساعدنا على رؤية الفرد من الداخل.