Close ad

"قصيرة التيلة" منيلة بنيلة..!

11-9-2016 | 10:06
ما زلت أذكر المشهد السينمائي العظيم الذي جَسَّده الفنان محمود المليجي "محمد أبوسويلم" في فيلم الأرض الذي أخرجه يوسف شاهين، والذي تدور أحداثه خلال عام 1933، عندما سقط على الأرض وقيَّده مأمور القسم بالحبال من قدميه في حصانه وأخذ يجره سحلاً، فقط لأنه كان يدافع عن أرضه.

بدا المليجي شارد الذهن، وكأنه لايشعر بالدماء التي تنزف من جميع أجزاء جسده، فقط يفكر في الأرض، وأخذ يغرز أصابعه فيها متشبثاً بها، ومتشبثاً بعيدان القطن، وفي الخلفية كانت موسيقى جنائزية لأغنية "الأرض لو عطشانة" والتي تقول كلماتها "الأرض لو عطشانة .. نرويها بدمانا، عهد وعلينا أمانة .. تفضل بالخير مليانة، يا أرض الجدود .. يا سبب الوجود راح نوفي العهود .. يا رمز الخلود قلوبنا تهون .. وعمرك ما تنامي عطشانة، الأرض لو عطشانة .. نرويها بدمانا"، وهذا المأمور كان يمثل الحكومة الموالية للاقطاع.

ورغم أن إنتاج القطن المصري أو الذهب الأبيض كما كنا نسميه، خلال تلك الفترة التي كانت تدور فيها أحداث الفيلم كان مرتفعاً إلا أنه كان متراجعاً مقارنة بعام 1920 الذي كان قد وصل ذروته، حيث كانت مصر تنتج 365 ألف طن، وتصدر لكل دول العالم، وكانت مصر تحتل المرتبة الأولى على مستوى العالم في إنتاج القطن، الذي بدأ منذ عام 1820 فقط بـ 45 طناً في السنة، وتدرج ليصل عام 1828 إلى 9150 طناً، وتم إنشاء أكثر من 33 مصنع غزل ونسيج في كل أنحاء مصر، وفي عام 1882 وصل إنتاج القطن إلى 130 ألف طن في السنة، إلى أن وصل عصره الذهبي عام 1920 كما ذكرت بإنتاج 365 ألف طن في السنة.

وظلت مصر تحتل المرتبة الأولى عالمياً رغم تراجع إنتاجه تدريجياً حتى بداية الخمسينيات، ليصل إنتاجه عام 2013 إلى 9000 طن في السنة، أي أن مستوى الإنتاج تراجع أكثر من 100 سنة ماضية عندما كنا ننتج 9150 طناً عام 1828.

واختفت بذور القطن طويلة التيلة، ليحل محلها بذور قصيرة التيلة، أو كما يسميها الفلاحون بذور "متنيلة بنيلة"، وتراجعت المساحة المزروعة من مليون ونصف فدان إلى 8 آلاف فدان.

ودخلت دول أخرى في المنافسة مع مصر، وفي مقدمتهم أستراليا بداية من عام 1960 وكانت تُنتج عدد 8 آلاف بالة قطن في السنة، في الوقت الذي كانت تنتج فيه مصر مليوني بالة في السنة، ليصل إنتاج أستراليا في عام 2011 إلى 5 ملايين بالة قطن في السنة، ويتراجع إنتاج مصر لأقل من مليون بالة في السنة، ويُقدر حجم ما تنتجة أستراليا من القطن سنوياً بما يكفي لأكثر من 500 مليون إنسان.

أذكر أن الإعلامي السعودي الرائع أحمد الشقيري قد خصص حلقة من حلقات برنامجه خواطر عن القطن المصري، وخلال الحلقة زار أرقى وأشهر مكان في أمريكا متخصص في بيع المفروشات المنزلية المصنوعة فقط من القطن المصري، وكانت ملاءة السرير يُقدر ثمنها بـ 2000 دولار أمريكي، فسأله الشقيري ما سبب ارتفاع ثمنها لهذه الدرجة؟، فأجاب الرجل وبدت على ملامحة علامات الدهشة من السؤال وقال بكل بساطة: قطن مصري _إيجيبشن قوطون_ (Egyptian Cotton)، فسأله عن جنسيات زبائنه، فقال له من جميع أنحاء العالم يأتون إلينا خصيصاً من أجل القطن المصري، فسأله: هل توجد لديك منتجات صينية، فقال له: زبائننا يتوقعون منا دائماً الجودة العالية والمتميزة، وهذا يتوفر فقط في المنتجات المصنوعة من القطن المصري، الذي يتشابه في ملمسه مع الحرير، لدرجة أن بعض زبائننا أحياناً يعتقدون أنه حرير، ويسألوننا هل هذا حرير أم قطن مصري.

وبالإضافة إلى إنتاج القطن ودوره في تشغيل مصانع الغزل والنسيج وإنتاج المنسوجات القطنية المصرية، ودوره كمصدر مهم للعملة الصعبة عبر التصدير، فإن بذرة القطن كان لها دور مهم أيضاً في تشغيل مصانع زيت الطعام، نظراً لفوائدها الصحية العالية، وكذلك صناعة أدوات التجميل، وينتج عن عملية صناعة زيت القطن مجموعة من المخلفات تدخل في صناعة الشمع والصابون، وينتج عنها أيضاً مادة تُسمى "الكسب الأخضر" تدخل في صناعة أجود أنواع الأعلاف النباتية للحيوانات والدواجن، وكان لهذا تأثير كبير على خفض أسعار اللحوم، حيث إن إنتاج الطن الواحد من مركزات الأعلاف النباتية الآن يتكلف 7 آلاف جنيه، بينما الطن الواحد من المركزات التي تُستورد من الخارج يتكلف 36 ألف جنيه، إضافة إلى أنها ليست بالجودة والفائدة نفسها، نظراً لأنها تُصنع من دماء الحيوانات التي تُذبح في المدابح، وأيضاً من ريش الطيور وعظام الحيوانات، وهو ما له تأثيرات سلبية على صحة الإنسان، حيث يُسبب أمراض الكلى والكبد وكذلك بعض الأمراض السرطانية لأنها تُحفظ من خلال مواد كيميائية حافظة.

خلال الأيام القليلة الماضية نشرت صحيفة"وول ستريت جورنال" الأمريكية تصريحاً على لسان المتحدثة الرسمية باسم محلات "وول مارت" الأمريكية الشهيرة لتجارة التجزئة، والتي قالت فيه إنهم اضطروا إلى جمع كافة منتجات شركة المنسوجات الهندية "ويلبسون"، لاكتشافهم أن "الملاءات" التي استوردتها "وول مارت" من "ويلبسون" لم تكن مصنوعة من القطن المصري كما ادِّعت الشركة الهندية، والتي بعد فتح باب التحقيق في القضية لم تستطع أن تؤكد أن منتجاتها مصنوعة بنسبة 100% من القطن المصري كما كانت تدعي على مدار سنتين، وأشارت الصحيفة الى أن "وول مارت" مسحت جميع إعلاناتها من على موقعها الإلكتروني.

وتعهدت برد تكلفة المنتجات التي اشتراها عملاؤها كاملة، فضلاً عن تبرعها بالملاءات المعروضة حالياً للبيع.

الشيء نفسه حدث مع شركة "تارجت كورب" لتجارة التجزئة، والتي سحبت آلاف الملاءات المنسوجة من القطن المصري كما ادِّعت الشركة الهندية، وقررت قطع علاقاتها نهائياً مع "ويلبسون" لادعائها استخدام القطن المصري منذ عامين.

هل يستطيع أحد أن يتخيل أن لدى مصر منتجاً تتصارع شركات عالمية على شرائه، وتدعي شركات عالمية أخرى تصنيعة، ويقوم الرأي العام في أوروبا وأمريكا على شركات تتدعي أنها تستخدم القطن المصري في تصنيع منتجاتها، وتعيش شركات عالمية بشكل كامل على بيع المنتجات المصنوعة من القطن المصري.

هل يكفي الحكم بالإعدام على كل من كان له دور في تراجع زراعة القطن أو الذهب الأبيض في مصر؟، هل صناعة بكل هذة الأهمية لا تستحق رعاية خاصة من الدولة؟، لماذا تبحث الحكومة دائماً عن المسكنات ولا تتبني مشروعات قومية كبرى لها دورها في نهضة مصر؟، لماذا لا ترى الحكومة ما نراه نحن في مصلحة البلد؟، ولماذا تُساند الحكومة ما نراه نحن ضد مصلحة البلد؟ لماذا لا تتوافق رؤى الحكومة ورؤى الشعب في نقطة واحدة تمثل مصلحة البلد؟

من المؤكد أن أحدنا يحتاج للذهاب إلى الطبيب للتحقق من قدرته على النظر، أو التحقق من قواه العقلية، حتى نحسم القضية.

كلمة أخيرة للشاعر أحمد رامي والتي غنتها كوكب الشرق أم كلثوم:

القطن فَتَّحْ هنا البال
والرزق جه وصفالنا البال
اجمعوا خيره مالناش غيره
يغني البلد ويهني الحال
أبيض منور على عوده
يحيي الأمل عند وجوده
كانت له يوم شنه ورنه
عمَّر بيوتنا وصهللنا
يارب يحيي لنا أملنا
وتخلي مصر في أسعد حال

[email protected]
كلمات البحث
اقرأ أيضًا: