لم يقف الفن يومًا عاجزًا أمام صعب أو مستحيل، بل دائمًا ما يعطي على مدى السنوات، إما تأريخًا واقعيًا عن أحداث ويعكس حالها بصورة واقعية، بل ويسهم بوجهة نظر -غالبًا ما تنجح- في التأثير على المشكلات وحلها، إن صدق المحتوى الفني فيما يقدمه وصدقت النوايا.
وفى مقالنا هذا نحب أن نلقي الضوء على عظيمة من عظماء الوطن، أفنت حياتها في ترقيته وسمو مشاعره، بل وعلمته بفنها الحب والتأمل والتضحية، وكل ما يرتقي بوجداننا من خلال مشروعها الفني الخالد تحت اسمها ولقبها الذي استحقته بجدارة سيدة الغناء العربي وكوكب الشرق أم كلثوم.
لن نتكلم اليوم على فن أم كلثوم، فهو بأصالته وخلوده، غني عن الحديث عنه، بل سنتكلم عن السيدة المصرية "أم كلثوم" عندما بعدت عن فنها إثر هزيمة 67، وجلست وحيدة منعزلة مكتئبة بين جدران منزلها بالزمالك، حزينة على وطنها وما آل إليه من هزيمة بعد فرحة ثورة يوليو 52 وتباعاتها من استقلال وحرية.
ولم يستطع أحد أن يخرج أم كلثوم من حزنها سوى فكرة إقامه حفلات لصالح المجهود الحربي.. الفكرة التى أحيت روح ثومة من جديد وهى تلف الأقطار والمحافظات، وتشدو هنا وهناك فى حب مصر.. كانت سعادتها بجمع المال لبلدها؛ ولتسليح جيشها تفوق كل سعادة، بل وكان أجر تلك الحفلات ما هى إلا وقود جديد يسري بدم أم كلثوم، كما كان يسري في دم كل مصري، وكل جندي، وكل مواطن انتكس وانهزمت عزيمته بعد نكسة 67 زارعًا في الروح والأمل والعزيمة على تحقيق النصر.
صندوق "تحيا مصر" ليس بالفكرة الجديدة، فقد رفعت أم كلثوم بكل مجدها وشهرتها وفنها بالعالم شعار "الفن من أجل المجهود الحربي"، وماله من شعار، وما لها من رسالة.
ولعلنا نتذكر صورة الست أم كلثوم في المرة التي وقعت بها على المسرح؛ عندما تقدم إلى المسرح بشكل فجائي شاب أراد أن يقبل قدميها، فوقعت أم كلثوم على المسرح، وهي المرأة التي تجاوزت الستين من عمرها، وهي لا تأبه شيئًا، إلا أن تستكمل حفلتها، والتي تغني بها من أجل مصر في حفلها الثاني على مسرح الأوليمبيا بباريس لصالح المجهود الحربي، بل وتحيي الحفلات على جبهات القتال للمرة الأولى في تاريخ الفن، وتاريخ مصر الطويل لتشعل بصوتها روح الجنود، وتبعث فيهم الحماس وروح الانتصار.
لم تكن أم كلثوم بفرقتها تحتفظ لنفسها بمليم واحد من أجور سنوات من الحفلات والعمل لمصلحة المجهود الحربي وجيش مصر العظيم الذى أنقذها تارة من ملكية مروعة، واحتلال إنجليزي متفش، ثم أسرج نور روحها وروح المصريين بانتصار وقفت له البشرية تعظيمًا وإجلالًا إلا وهو انتصار أكتوبر المجيد.
وتسابق بعد أم كلثوم الكثير والكثير من المثقفين والأدباء والفنانين في التبرع من أجل مصر في مواجهة العدو الإسرائيلي وحلفائه ظاهرًا وباطنًا.
وكانت الجهود مكللة بكل النجاح؛ لأننا وببساطة اجتمعنا على قلب رجل وهدف واحد، وظلل الفن برسالته الحقيقية الأمنيات بالنصر والشرف والإخلاص.
وفي ظل احتفالاتنا هذه الأيام بثورة يوليو 52، لا يسعني إلا أن أحيي كل من وقف ويقف بجوار وطنى الحبيب إخلاصًا وحبًا وتفانيًا ماضيًا أو حاضرًا أو مستقبلًا فى كل المجالات، وأنا يتراود في داخلي كلمات عبدالفتاح مصطفى، وألحان بليغ حمدي وصوت أم كلثوم:
"إنا فدائيون
كشف النقاب عن الوجوه الغادرة
وحقيقة الشيطان بانت سافرة
إنا فدائيون نفنى ولا نهون
إنا لمنتصرون
لا ياعدوي يا نصيرًا لعدوي
لا لن ترى بحري ولا أرضي ولا جوي
لا بل سأمضي وانتصاراتي تدوي
إنا فدائيون".