تعاقب منذ قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير ثمانية وزراء على الثقافة في مصر (محمد الصاوي، عماد أبوغازي، شاكر عبدالحميد، صابر عرب، علاء عبدالعزيز، جابر عصفور، عبدالواحد النبوي، حلمي النمنم) بعضهم تولى الوزارة مرتين، وجميعهم تحدثوا عن قصور الثقافة بوصفها وزارة موازية.
وأنها الهيئة الضاربة بأناملها وأذرعها في مختلف ربوع مصر من أقصاها إلى أقصاها، والهيئة القادرة على إحداث ثورة حقيقية في الثقافة، ومواجهة التيارات الظلامية في الشارع المصري، لكنه في الأغلب كان حديثًا للاستهلاك المحلي، فقد كانت مهمة الوزارء بعد الثورة هي امتصاص الغضب، ونزع فتيل الحرائق قبل أن تندلع، ومن ثم كانت قصور الثقافة هي الهيئة الجماهيرية المرشحة دائمًا لأن تكون على طاولة خطابات الرأي العام، حتى دون معرفة كيف يتم تحويل الكلمات الكبرى في هذه الخطابات إلى مشاريع حقيقية، ومن ثم تمخضت الخطابات الرنانة عن مشاريع مثل صيف أولادنا ومليون قارئ وغيرها، وهي مشاريع لا تختلف عن مكتبة الأسرة وما صاحبها من أنشطة كرنفالية في زمن سوزان مبارك، أي أننا كنا كمن يدهن العجلة ليبيعها لصاحبها من جديد.
لم يكن أمام الوزارء المتعاقبين سوى أن يهتموا بمقولتين، الأولى هي محاربة الفساد، والثانية هي تطوير مشروع النشر، بوصفه المشروع الأبرز والأشهر والذي يمكنه أن يحقق لأي منهم حضورًا سريعًا في الشارع الثقافي، والحقيقة أن قصور الثقافة بها عشرات الأنواع من الفساد، أقلها أهمية هو الفساد المالي، إذ أنها جهة خدمية وليست ربحية، أي أنها جهاز إداري بيروقراطي ذو موارد محدودة يصعب التصرف فيها إلا طبقًا للقانون، لكن أيًا من الوزاراء الثمانية لم يفهم لغز هذه الهيئة، ومن ثم سعى كل منهم إلى المزايدة على الجميع مبرئًا نفسه من تهمة التستر على الفساد، دون أن يعلم أنه يخلق مزيدًا من الفساد، إذ إنه يضرب الهيئة في مقتل حين ترك يد الرقابة الإدارية تقلب كل حجر فيها بحثًا عن الفساد، فارتبك كل من في الهيئة باعتبارهم هدفًا لرصاص محاربي الفساد، وبدلًا من المغامرة والمجازفة الإبداعية، صار الكل يفضل ألا يعمل عن أن يعمل ويتم تصيد الأخطاء له، فضلًا عن أن من يعمل صار يمضي نصف وقته في التردد على النيابة الإدارية إن لم يكن بوصفه متهمًا فعلى الأقل شاهد، وصار المسئولون لا يلتقون ببعضهم في الهيئة بقدر ما يلتقون في النيابة الإدارية.
كان النشر في الهيئة من أكثر المشروعات التي اتهموها بالفساد، لا لشيء سوى عدم معرفتهم بآليات عمله وطرائق توزيعه، فاتخذوا من مرتجعات الكتب دليلًا على ذلك، وبدلًا من محاسبة رؤساء الهيئة ـ على عدم تزويد مكتبات قصور الثقافة يزيد عددها على خمسمائة وخمسين مكتبة بها بهذه المرتجعات ـ قدموا توصياتهم بتخفيض عدد المطبوع من المجلات والسلاسل التي يرونها لا توزع، وبدلًا من محاسبة التسويق في الهيئة عن عدم قيامه بعمله، قرروا التعامل مع الثقافة بمنطق: البضاعة التي لا توزع لا يتم إنتاجها ولا عرضها.
ولأن الوزراء الذين تعاقبوا جاءوا باحثين عن أن الرقم القياسي الذي قضاه فاروق حسني في وزارته، فلم يفكر أي منهم في أن يشرح لمسئولي الرقابة الإدارية طبيعة جهاز الثقافة الجماهيرية، ولا أنه من مقدسات الأمم الفقيرة عدم المساس بمخصصات الدعم الثقافي لأبنائها، وسارعوا بعمل لجان وزارية وداخلية لتمرير التوصيات وتنفيذها دون مواجهة الرأي العام بذلك.
لم يسأل أي من مسئولينا نفسه في إطار تفكيره للنهوض والتطوير عما قدمته الهيئة في ثقافة المرأة، أو ثقافة القرية، أو الشباب، أو العمال، وبالهيئة إدارت عامة أقدم من النشر مختصة بذلك، لم يسأل أي منهم عن الإدارة المركزية للدراسات والبحوث ودورها، ولا الإدارة المركزية للتدريب وإعداد القادة، في ظل استيراد الهيئة كوادرها من التربية والتعليم، بل لم يسأل أحد نفسه لماذا يكون بهيئة ثقافية -كقصور الثقافة- إدارة مركزية للأمن!