Close ad

أحمد النجار يكتب: بوابة الحضارات.. نقش بالروح على جدار الهوية

24-8-2015 | 16:35
أحمد النجار يكتب بوابة الحضارات نقش بالروح على جدار الهويةموقع الحضارات لمؤسسة الاهرام
أحمد السيد النجار
في 30 يونيو الماضي أطلقت مؤسسة الأهرام بوابتها الإلكترونية الجديدة «بوابة الحضارات».

وهي بوابة معنية بالأساس بالإبحار في مكونات الهوية المصرية، وبتعميق معرفة وإيمان وتمثل المصريين لهويتهم الحضارية، كما أنها معنية بتقديم صورة الهوية الحضارية المصرية للعالم، حتى لا تُترك تلك الصورة نهبا للتشويه المروع من شيوخ الطائفية، ومن قطعان الإرهابيين باسم الدين، والذين أشاعوا صورًا سلبية عن ثقافة وحضارة أهل مصر والمنطقة العربية.

كما اختصروا تاريخها وإسهامها الحضاري في حقبة واحدة من التاريخ المصري وهي الحقبة العربية الإسلامية.

وتشمل مكونات الحضارة المصرية، ثقافة الطعام والشراب والملبس والزينة، والبناء والزراعة والصناعة والتعدين والنظم الاقتصادية، والسياسية، والغناء، والموسيقى، والرسم، والنحت، والمسرح، والسينما، والفن بكل فروعه، والأدب بكل ألوانه، والرياضة والعلوم الطبيعية والعسكرية، والفلسفة، والحكم والأمثال والأخلاق، والعلاقات الإنسانية، والمحارم، والأديان القديمة، والأساطير، والأديان السماوية، و«التصوف» القديم، والرهبنة، والتصوف الإسلامي، وغيرها من عناصر الهوية الحضارية المصرية.

وتلك المكونات الحضارية التي صارت تنتقل بالجينات بعد أن ترسخت قرونًا متعاقبة هي ما تبرر القول عن الشعب المصري بأنه شعب متحضر. حتى بالنسبة لغير المتعلمين فإنهم قد يكونون أكثر تحضرًا في ظل تمثلهم القيم الحضارية الإيجابية الموروثة من أم حضارات العالم.

وانطلاقا من الدور القائد لمصر في وطنها العربي وقارتها الإفريقية ومحيطها المتوسطي، فإن مؤسسة الأهرام التي تعد الرافعة الأكبر والأكثر أهمية لخيمة الإعلام العربي، تعتبر أن عليها دورا قائدا في تنوير المجتمع والعالم بالهوية الحضارية المصرية والعربية، وبالعناصر المشتركة في الهوية الحضارية المصرية مع الإنسانية عمومًا، خاصة مع البلدان الإفريقية، خاصة دول حوض النيل والبلدان الأوروبية.

وتعتبر أن عليها أيضًا أن تعمل على تعزيز كل القيم الإيجابية التي تنطوي عليها هويتنا الحضارية، كأساس للتطور والتفاعل بإيجابية وندية مع العالم الخارجي.

وقد تم اختيار تاريخ 30 يونيو باعتبار أن أهم ما يميز الموجة الثورية الهائلة في هذا التاريخ من عام 2013 هو كونها ثورة للحفاظ على الهوية المصرية من مسخها على يد الإخوان والسلفيين بثقافتهم الوهابية الطائفية التي تنفي قاعدة المواطنة كقاعدة جامعة لكل المصريين، والتي تنزلق لتكفير المخالفين لهم مذهبيًا.

وخلال أقل من شهرين من إطلاق هذه البوابة، أصبحت من أفضل وأعمق البوابات المصرية والعربية، إن لم تكن أفضلها وأعمقها وأكثرها ثراء بالمادة العلمية والثقافية والصحفية، التي تشكل إضافة كبرى لمسيرة التنوير، وتعميق إدراك الهوية ولجهود تقديم الصورة الحقيقية للحضارة المصرية الفريدة على مر الدهور.

وتأسيس هذه البوابة كان أحد الأهداف المهمة لمؤسسة "الأهرام" لمصلحة وطننا العظيم مصر، وصورة حضارته وهويته فى الداخل وأمام العالم بأسره، فليست هناك أمة لديها ما لدى مصر من ميراث حضارى مذهل فى ثرائه وتنوعه وعمقه، بحكم أنها الأقدم كأمة ودولة عن كل ما عاداها. وبرغم وضع مشروع هذه البوابة من شهر مارس 2014 بعد وقت قصير من تسلمي مسئولية إدارة "الأهرام"، فإنها لم تخرج للنور إلا منذ أقل من شهرين؛ بسبب فترة الإعداد الطويلة.

فكرة البوابة والمشروع الخاص بها أمر إيجابي، لكن الأبطال الحقيقيين لهذا العمل الكبير هم فريق العمل الرفيع الكفاءة الذى حول الفكرة إلى واقع بقيادة الزميل الموهوب الشاعر "أحمد خالد".

وبغض النظر عن أهمية تقديم صورة الحضارات التى مرت على بلادنا لكل العالم فى مواجهة الصورة السلبية التى أوجدها الإرهابيون، فإن الحضارات العظمى التى تعاقبت على بلادنا تستحق التقديم حتى دون وجود هذه الصورة السلبية.

وهذا التقديم لمعطيات تلك الحضارات يحول التمثل التلقائى للقيم الحضارية الموروثة إلى إدراك واع بها، كما أن الاعتداد دون غرور أو عنصرية بالذات الحضارية يسهم فى بناء قيم الاستقلال والتعامل المتكافئ مع باقى شعوب ودول العالم، كما يسهم فى تعزيز القدرة على الإنجاز فى وقت تُعدُّ مصرنا فيه أحوج ما تكون لهذه القيمة لتحقيق انطلاق اقتصادى، وسياسى، واجتماعي حقيقي، قائم على قيم الحرية والمساواة، والتنمية الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والعدالة.

والحقيقة أن كلمات عالم المصريات جيمس بريستيد عن بزوغ فجر ضمير العالم من مصر لم ينطو على أى مبالغة، فمن وادى النيل ودلتاه العظيمة دق المصريون القدماء ناقوس بداية مسيرة الحضارة الإنسانية، بتأسيس أول جماعات بشرية مترابطة لديها قواعد لكل شىء، قبل ان تتحول لدولة هى الأولى فى التاريخ.

وقد تشكلت الهوية الحضارية المصرية من طبقات متعاقبة من عصر ما قبل الأسرات قبل الميلاد بـ 12 ألف عام، فى عصور حضارات مرمدة، والفيوم، والبدارى، وحلوان، وغيرها من المواقع الأولى للحضارة المصرية.

وحلقت فى مستويات فارقة فى عهد الدولة المصرية (الفرعونية) القديمة، أو عصر البنائين العظام، الذين وضعوا القواعد فى كل شىء، وتركوا لمصر أهرامهم العظيمة، ونصوص الحكمة الجامعة فى متون "الأهرام" والنظريات الخاصة بنهر النيل والفيضان، ونظريات الخلق الفريدة التى حاولت تفسير نشأة العالم، والعلاقة بين البشر ومجمعات الآلهة حسب أساطيرهم، وتعتبر أسطورة الخلق التى يتصدرها «رع» -كإله خالق- واحدة من أكثر الأساطير سحرًا ودلالة، والتى لم تجد تفسيرًا للكيفية التى جاء بها الإله، فقالت بأنه خلق نفسه بنفسه، واستخدمت «الجعران» -الذى يخرج فجأة من الرمال التى يدفن نفسه فيها- رمزًا لهذا الخلق الذاتي.

وما زال هذا السؤال بلا إجابة حتى الآن فى كل الأديان السماوية وفى كل الفلسفات المادية والمثالية.

ومن بعد الدولة المصرية القديمة، جاءت الوسطى ومركزها أهناسيا بميراثها الهائل فى البناء السلمي، وفى إنجاز المشروعات الزراعية الكبرى في عصور أمنمحات الأول والثانى والثالث وسونسرت الثالث بصفة خاصة.

ويأتى بعد ذلك عصر الدولة الحديثة التى حررت مصر من الهكسوس، وأسست لعصر الإمبراطورية التى سيطرت على العالم القديم بغرض درء المخاطر عن مصر، وليس بغرض النهب؛ لأن مصر الثرية لم تكن بحاجة لذلك. وبلغت تلك الدولة ذروة مجدها فى عهد «من خبر رع» الشهير بـ «تحتمس الثالث».

وقد شهد عصر الدولة الحديثة بناء أعظم المعابد والمسلات وقبور وادى الملوك ووادى الملكات.

كما شهد ذلك العصر نمطًا رفيع المستوى للكيفية التى تعاملت بها الدولة المصرية مع الأقاليم التى كانت تحت سلطتها، ويأتى بعد ذلك عصر الاضمحلال، والعصر المتأخر الذى شهد حالة استثنائية من التسامح العرقى، حيث وصلت أسرة نوبية إلى حكم مصر، كما حكمتها أسرة ليبية أو أمازيجية، دون أن يعتبر ذلك حكمًا أجنبيًا؛ لأن كليهما من مكونات مصر، وهو ما أسس لعدم وجود أى تمييز عرقى فى مصر من ذلك العهد القديم وحتى عصرنا هذا.

ويأتى بعد ذلك العهدان اليونانى والروماني، ثم تأتي الحقبة القبطية التي ناضلت فيها مصر للحفاظ على هويتها الحضارية، فتميزت حتى فى المذهب الديني الذي اختارته (الأرثوذكسية)، ووضعت نفسها رأسًا برأس مع الكنيسة الكاثوليكية فى روما الإمبراطورية المسيطرة عالميًا آنذاك.

ثم جاء العهد العربى الإسلامى بكل الدول التى تعاقبت عليه، وبالذات الدولة الفاطمية ممتدة الأثر فى عادات وتقاليد ومعتقدات واحتفالات أهل مصر، وفى ذلك العهد تحولت مصر تدريجيًا إلى القلب الثقافي والديني للعالم العربي الإسلامي.

وصار الجامع الأزهر المركز الأكثر أهمية للفتوى وتعليم الدين واللغة العربية.

ثم جاء تأسيس الدولة الحديثة فى عهد محمد على بكل مكوناتها، وتمت إعادة بعث العسكرية المصرية على يد نجله إبراهيم باشا؛ ليذهل الدنيا بأداء الجيش المصرى الذي عصف بالدولة العثمانية المريضة، وسحق جيشها ودفع أسطولها للاستسلام فى الإسكندرية بكامل قطعه، وهذه الدولة الحديثة ورثت كل الحضارات التى مرت على أرض مصر بعناصرها الإيجابية والسلبية.

وقد تأثرت الهوية الحضارية المصرية بتفاعلاتها القوية مع كل الحضارات التى تفاعلت معها سلامًا، أو صراعًا فى إفريقيا، والعراق، وفلسطين، والشام، وشبه الجزيرة العربية، ودول شمال وشرق البحر المتوسط.

كما أن مصر التى تحولت فى العهد العربى الإسلامى إلى قلب المنطقة العربية، صارت قلب الثقافة والحضارة العربية، سواء فى مكوناتها الموضوعية، أو فى الوعاء المعبر عنها والناقل لها أى اللغة.

والحقيقة أن الزملاء فى بوابة الحضارات لم يخيبوا ظن مؤسستهم العظيمة، وكانوا على قدر قيمتها وقامتها، فأنجزوا عملًا بديعًا، أغرانى بهذه الكتابة الذاتية عن المؤسسة العظيمة، التى أشعر مع كل الزملاء بالفخر بالانتماء إليها.

وربما تكون بعض العناوين المختارة من الموضوعات التى تناولتها البوابة مؤشرًا ودليلًا على حجم الإنجاز فى زمن قياسى، يجعلها تستحق المتابعة بالفعل كمنهل للثقافة والتنوير، وإعادة اكتشاف الإرث الحضاري الجبار لمصر.
كلمات البحث
الأكثر قراءة