رأيت العمـــى أجراً وذخــراً وعصمة .. وإنــــــي إلى تلك الثلاث فقيــــرُ
يعيّرني الأعــــداءُ والعيبُ فيهمُ .. وليس بعيبٍ أن يُقــــــال ضريـــرُ
إذا أبصر المرءُ المــــروءة والـــوفا.. فإنّ عمى العينين ليس يَضيـــــرُ
أبيات هي لسان حال 750 طالبًا كفيفًا، بجامعة الأزهر، بعد أن تحولت رحلتهم التعليمية إلى مأساة بسبب "متاهات المبصرين" من أصحاب القرار وأخطاء "المرافق" التي دفعت شريف لفقد 8 درجات بمادة الحديث، بسبب خطأ الطفل الذي كان يصاحبه للكتابة في اختبارات الترم، في الوقت الذي رسب فيه يوسف، بعد تخلف المرافق عن حضور3 مواد، وانتقلت شيماء من صفوف أوائل المحافظة إلى صفوف "لم ينجح منهم أحد" لتبدأ تفاصيل المأساة.
صالح صلاح، الطالب الكفيف بكلية أصول الدين، جامعة الأزهر، بدأ حديثه لـ "بوابة الأهرام" بابتسامة ساخرة وحركات رأس تتمايل نحو اليمين واليسار يقول: نحن نعاني الإهمال والتهميش من أصحاب القرار المبصرين، نفتقر الآليات العلمية التي تراعي ظروفنا واحتياجاتنا الخاصة ما يجعلنا في معاناة شديدة وصراع مع الظلام والعلم.
وباستفاضة تابع: محرومون من طريقة "برايل" الخاصة بالمكفوفين، لم ندرب عليها منذ النشأة، مما يصعب علينا المذاكرة، نعتمد على التلقين والحفظ وللأسف يتخرج كل منا عالم أزهري كفيف "خالي الوفاض بادي الانفاض".
وتعجب الشاب: "الجامعة تصر على إدخال الإنجليزية ولغة الحاسوب لطالب كفيف لا يعرف شكلًا للحروف العربية، أما كان من الأولي اعتماد طريقة "برايل" ؟
وبعبارات تحمل الكثير من العتب عاد صالح للحديث عبر طاولة مستطيلة جمعت أكثر من 16 كفيف: الرسول لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ومؤسستنا الأزهرية تخلي مسئوليتها وتضيق الخناق على أبنائها بشروط تعجيزية لاختيار المرافق، أهمها: أن يكون المرافق طالب إعدادية أو دبلوم!
محمد أنور، الطالب المثالي الذي أجمع كل أساتذته على تفوقه بكلية الأصول، لم يتمالك هدوءه قائلًا:" بالله عليكَ كيف استعين بطالب اعدادية لا يستطيع كتابة اسمه واطلب منه كتابة آيات قرآنية وأحاديث ومتون وعلوم فقهية شديدة التعقيد، معلقًا: "بتاع الدبلوم لو فالح كان نفع نفسه".
وتحدث أنور عن تكلفة توفير المرافق التي تصل لـ160 جنيهًا، عبارة عن وجبتين فضلًا عن تكاليف الانتقالات وأجرة إيد المرافق.." طب أنا عندي 11 مادة أجيب 1760جنيه منين وأطلبهم من والدي الغلبان ولا أطلب مصاريف الجامعة ولا السكن ولا الكتب؟
"الدراسة هم وغم"- وصف ثقيل خرج على لسان أحمد صبري، طالب الدعوي الإسلامية الذي أوضح أنه مطالب بحفظ 12 مادة وأن سعة الكتاب تتجاوز 400 ورقة.
صبري حديث عهد بالإعاقة، فقد بصره بالمرحلة الثانوية، يري أن "حياة العميان عذاب"- على حد وصفه، وأن أصعب ما فيها معاملة المبصرين.
يستعرض أحمد الأسباب: "مطلوب مني توفير مرافق للامتحان وآخر للطريق وثالث للمذاكرة، لافتًا إلى أنها تكاليف في غير متناول أبيه الموظف الذي أنفق ما في جيبه لإنقاذه من العمى، دون جدوى.
(إنْ يأخُذِ الله مـن عينيَّ نُورَهُـما.. ففِي لِسانِي وقلبي مِنْهُما نـورُ)- أبيات استعارها صالح، من الصحابي ابن عباس مستنكرًا معاملة الجامعة لهم وكأنهم مبصرون بل وتحملهم ما لا يتحمله الطالب الصحيح.
اتفق شريف مع كل ما قاله الأصدقاء مضيفًا أن الأساتذة يرفضون تسجيل المحاضرات مخافة الامتناع عن شراء الكتب.." الدكتور خايف على كتابه ومش خايف علي مستقبل ضرير".
"والله ليعاتبن ربي شيخ الأزهر فينا كما عاتب الرسول، فكيف لمؤسسة دينية أن تكبت مواهب أبنائها وتضيق علي طلابها وتنتظر منهم أن يكونوا دعاة صالحين يعلون شأن دينهم ودنياهم، هذا العجب العجاب" - قالها صلاح.
وبعزة نفس وعينين طغي عليهما اللون الأبيض أعلنها شوقي: "شرف لي أني كفيف وأني ابن الأزهر ولكن اعتذر لكتاب الله الذي في صدري عن تقصيري بسبب ما أراه من معاناة مع المبصرين مختتمًا: أنا زي اللي داير في ساقية، بجيب أخري وبذاكر، بس كله علي الفاضي".
هل من حق الكفيف أن يكون مُعيدًا؟ -سؤال طرحناه وتسابق في إجابته الطلاب، حيث عقب صالح بـ"صعب جدًا يحصل ونادر" بينما أوضح محمد أن آخر معيد كفيف تم تعيينه في عام 1987م.
"العبارة في الإدارة" جملة حملت الكثير من الغموض قالها أحد الطلاب مؤكدًا أن معامل الكمبيوتر مغلقة وأن القائمين عليها "شوية موظفين" لا يعرفون شيئا عن أنظمة الحاسب.
وبشئ من التفصيل قال: الجامعة بها80 كلية كل كلية بها 15 حاسبًا مزودًا ببرامج "إبصار" المعنية بالمكفوفين، تكلفة البرنامج 7000 جنيه، لكن لا الكفيف مستفيد ولا البرامج مفعلة ولا الموظف فاهم وكله إهدار للمال العام.
"ليس الكفيف الذي أمسي بلا بصر.. إني أري من ذوي الأبصار عميانا"- أبيات رددها الطلاب على طاولة مستطيلة كاشفين الستار عن واقع فاضح يؤكد أن الخريج الكفيف "فضيحة" في الإملاء بسبب النظام التلقيني.
ووجه صالح حديثه للإمام الأكبر: " يا شيخنا، لقد عاتب رب العزة حبيبه محمد في عبد الله ابن أم مكتوم وهو كفيف وأنزل فيه قرآن يتلي إلي يوم الدين، ومن الصحابة والتابعين مكفوفون شهدت لهم الدنيا بأثرها مثل عبد الله بن عباس ومؤذن الرسول والشاطبي، ومن المقرئين من متعوا الدنيا بأصواتهم، فاستمع لمطالبنا علك تكون سببًا في تحقيقها وترتقي بأبنائك المكفوفين فنلحق بـ الركب؟.
إدخال طريقة "برايل" والاستغناء عن التلقين، توفير مرافق كفء عن طريق الجامعة، الاكتفاء بالشفوي، الإعفاء من مصروفات الجامعة والكتب والسكن أسوة بغير القادرين من المبصرين، توفير مواد علمية مسجلة، السماح للمتفوق الكفيف بأن يكون معيدًا-مطالب اجتمع عليها الطلاب بعد جلسة دامت لأكثر من 3 ساعات.
من جانبه أعلن د. أحمد حسني، القائم بأعمال رئيس جامعة الأزهر، أن جميع الكليات تحتوي علي أحدث الأنظمة السمعية والصوتية الخاصة بالمكفوفين لافتًا أنهم "قلة "ولا يتجاوز عددهم750طالب.
وأضاف: مسئولية توفير مرافق من عدمه تكون "سياسة عميد"، مشددًا على الطلاب حسن التدقيق في اختيار من يكتب عنه في الاختبارات وأن فكرة جعل الامتحانات شفوية قيد الدراسة لكنها ستخلق تمييزا بين الطلاب المبصرين والمكفوفين.
في الوقت ذاته عقب الدكتور عبد الفتاح العواري، عميد كلية أصول الدين قائلًا: نعمل جاهدين على توفير كافة سبل الراحة للمكفوفين بإنشاء مركز "إبصار" بأحدث البرامج لتمكين المكفوف من القراءة والكتابة بنفسه دون الحاجة لمرافق، ولكن المركز لازال يخضع "الترميم والتجديد".
كما أكد العوارى، أن جميع الكتب بكلية أصول الدين تعطي بالمجان للمكفوفين وهو ما أنكره الطلاب جملة وتفصيلًا مطالبين بالمساواة مع أقرانهم بالجامعات الأخرى.
تضاربت التصريحات مع شهادات الطلاب وبقت أم شيماء تبكي بجوار ابنتها الكفيفة تقول: أنا شوفت السبع دوخات ببنتي، 20 سنة دايرة على كعوبي، بقوم 4 الفجر عشان أوصلها الجامعة وفي النهاية بنتي سقطت وشالت 7 مواد وهي كانت من أوائل الإعدادية بسبب المرافق.
بكت الأم وأبكت كل من سمعها بصوتها المختنق ووجهها المحمر خجلًا واختتمت الحديث: "نفسي شيخ الأزهر يبص لشيماء وللي زيها ولادنا غلابة يا شيخ راضيهم يراضيك ربنا".
مطالب المكفوفين بجامعة الأرهر في لقاء "بوابة الأهرام"