لم تكن العلاقات الروسية السورية هي وليدة اللحظة الراهنة في عالمنا المعاصر الموبوء بالإرهاب وتنظيماته العديدة مثل داعش وجبهة النصرة التي يقاتلها الجيش العربي السوري مدعومًا بروسيا بل كانت تمتد العلاقة لأكثر من قرن وربع وفي التحديد في القرن التاسع عشر وبشهادة الكاتب العربي أسعد داغر والذي عاش في لبنان وسوريا والسودان وشغل منصب وظيفة رئيس القلم القضائي في وكالة حكومة السودان من قبل مصر ساعدت المدارس الروسية في تحقيق مجانية التعليم وفي نشر اللغة الروسية في ربوع الشام منذ نهايات القرن التاسع عشر.
أسعد داغر الشاعر والمترجم المولود في عام 1860م بلبنان والذي توفي في القاهرة عام 1938م كتب في عام 1900 مقالًا في مجلة المقتطف الثقافية يشرح فيه التواجد الروسي في سوريا والعلاقات فيما بينهما وذلك من خلال المدارس المجانية التي أسستها روسيا في عصر القيصر سرجيوس .
يقول داغر في مقاله الذي أرسله لمجلة المقتطف الثقافية وتم نشره في أكتوبر من عام 1901م " إن الجمعية الروسية التي أسست مدارس في سوريا قد عممت التعليم المجاني في كل مدارسها ورفضت تكليف أولياء الأمور مصاريف سواء كانوا فقراء أو غنيا بل إن الطالب في الأقاليم السورية يتلقي الدفاتر والأحبار والأوراق وكل مايحتاجه مجانا لافتا أن هذه القوانين جعلت كافة أهالي سوريا يقومون بأرسال أولادهم للمدارس الروسية لأنهم لايتحملون نفقات التعليمات خلاف المدارس الآخري.
يشرح داغر في مقاله النادر أن الذي جعل المدارس الروسية تكتسب أهمية في سوريا هي طائفة الروم الأرثوذكس لأنهم يحبون الروس حبًا جمًا لافتًا إلى أن هذه العلاقة أيضا أجبرت الجمعية الروسية علي الأكثار من إنشاء مدارس دينية تخدم طائفة الروم الأرثوذكس، مشيرًا إلي إن طرق التعليم في المدارس الروسية يتسم بالدقة والانضباط وهي صفات لم تتواجد في مدارس الجمعيات الآخري في كافة أنحاء سوريا .
من القوانين في المدارس الروسية بسوريا مراعاة صحة الطلاب والمعلمين معًا وأن يعطي الطلاب بداية من عمر 10 سنوات فسحة تبلغ 10 دقائق بين كل ساعة لإراحة الذهن من التعب العقلي أما الطلاب الذين يبلغون 6 سنوات و9 سنوات يعطون راحة كل نصف ساعة تقدر مابين 20 إلي 30 دقيقة وفي كل فسحة لابد أن يخرج الطلاب فرق كأنهم فرق عسكرية مدربة علي السير بغاية الانتظام والدقة ولايسمح للطالب أن يمشي محدوبا بل يسير منتصب القامة مرفوع الرأس مكشوفة ويداه علي جانبيه موفقا خطواته علي خطوات رفيقه وفي أثناء اللعب لايسمح للمدرسين بأن يتنحوا عن التلاميذ بل يراقبونهم وعيونهم مفتوحة مع تدريبهم علي الرياضة .
عندما تنتهي الفسحة ويقرع الجرس يقف الطلاب لحظة كأنهم آلة جامدة ثم يقرع لهم الجرس ثانية فيسرعون في لحظة إلي أماكنهم في الصفوف فيقف معلمهم أمامهم كأنه قائد عسكري ويأخذ في استعراضهم وطلب اتجاههم من اليمين واليسار والأمام والخلف فيسير بهم وهم يتغنون بأناشيد حتي تدخل كل فرقة منهم الغرف " الفصول " المخصصة لهم"، لافتا أن كل معلم في المدارس الروسية في سوريا أن يفحص نظافة الطالب وأن يقوم بفحص وجه وشعره ويديه ويقوم بتدوين الغائب والحاضر وسبب الغياب أيضا.
ومن القواعد أيضا أن يسمح للمعلم بالجلوس إطلاقا أثناء التدريس أو السماع من الطلاب وأن يكون منتصبا أمام الفرقه ولايسمح المعلم لأحد التلاميذ أن يلقي سؤالا علي أقرانه التلاميذ مالم يكن متحققا أن كل التلاميذ يعرفون الإجابة وكيفية ذلك أن يقوم المعلم الروسي بطرح السؤال لأحد التلاميذ وبينما التلميذ يكون منشغلًا بالإجابة يقوم بطرحه علي تلميذ آخر وبهذه الطريقة تري الآذان مفتوحة لكل سؤال حتي أنهم نادرا مايحتاجون إعادة السؤال عليهم.
وعلي كل معلم روسي أن يلاحظ التلاميذ الروسيين وإذا وجد أن كلل وتعب طرأ عليهم يقوم بقص حكاية لهم مضحكة كي يثير انتباهم مرة ثانية حيث إن مدارس الروس في روسيا لا تعتمد علي الحفظ فهي تعتمد علي الشرح والتبسيط والفهم حتي أنهم يدرسون فنونًا كثيرة بلا كتب كما أكد المترجم والشاعر أسعد داغر .
المعلمون الروس حين يعلمون تلاميذ سوريا اللغات لا يرهقون الصغار بتعليم أسماء الحروف الهجائية بل يقتصرون علي تعليمهم أصوات الحروف لأنه هو المهم في تعلم اللغات كما أن لهم طريقة عجيبة وغريبة في تدريس الحساب والرياضيات كما أن لهم قصصًا أدبية رائعة جدا يدرسونها للتلاميذ كما أن الضرب ممنوع منعًا باتا في المدارس الروسية في روسيا
يؤكد داغر " خلاصة الأمر أن المعلم في المدارس الروسية في سوريا عليه أن يكون له صبر جندي وخفة ضابط وحذق القائد وإلا لقذفوه في حالق "طردوه" ولو كان في صدره حكمة الأولين وعلوم المتأخرين ولذلك تري النجاح حليفا لها وقد شاعت بها اللغة الروسية في أنحاء سورية "
في سياق متصل قال أنور عمارة خبير تربوي بمحافظة قنا في تصريح لــ"بوابة الأهرام " إن مقال داغر النادر كان يستعرض حال التعليم المتدهور للجمعيات الآخري التي أقامت مدارس والتي صارت علي نهج محمد علي باشا والي مصر في البداية فقامت بجمع المتشردين والأطفال الذين يتواجدون في الأزقة والحواري وقامت بتعليمهم داخل سوريا ثم حين اشتد عودها أرهقت المواطنين بمصاريف عالية وأضاف أن الشاعر والمترجم أسعد داغر أكد وأن الجمعيات الكاثوليوكية التي كانت تؤسس مدارس لتعليم أطفال سوريا كانت تكلف أهلهم النفقات وأخذت تتنافس في الأجور العالية التي تحصلها من أولياء الأمور الطلاب مما جعل المدارس الروسية تكون متفردة في سوريا بكثافة طلابها والإقبال عليها .
ولفت عمارة أن نظام التعليم الروسي الذي تم تعميمه في الوطن العربي ومنها مصر وخاصة في عهد جمال عبدالناصر الذي حقق المجانية كالطريقة الروسية كان له دوره الفعال في إخراج أجيال ملتزمة ومنضبطة تعرف قيم الانتماء والوطن والانضباط والدقة والبعد عن الحفظ والتلقين للشرح.
وأكد أن النظام التعليمي الروسي تم تغيره في مصر بعد اتفاقية معاهدة كامب ديفيد في سبعينيات القرن الماضي حيث اعتمد التعليم علي النظام الأمريكي البرغماتي حتي هذه اللحظة ووصل حال النظم التعليمية من الأهمال لما نحن فيه الآن لافتًا أن التعليم السوري كان وما يزال من أهم النظم التعليمية في وطننا العربي.