التاريخ الجنائي مفعم بالكثير من الجرائم الغامضة التى تتحدى القاعدة التى يقر بها الكثيرون من علماء الجريمة، بأنه "لا توجد جريمة كاملة" ويكون الواقع بأنه قد تذهب مجهودات البحث الجنائي سدى أمام خبرات مرتكب الجريمة أو ما تهيئ له الظروف المحيطة بالجريمة. وذلك بسبب طمس الأدلة وضعف القرائن التى تجعل المجرم بعيدًا عن قبضة العدالة حتى يفلت منها في خضم الأحداث المتلاحقة.
موضوعات مقترحة
وحتى الآن على الأقل، يمكن لجريمة الشاب الإيطالي جوليو ريجيني، أن تحسب من بين هذه الجرائم المتعثرة بسبب غموض ما أحاط بها من ظروف من قبل وبعد الجريمة، فلم يكن الغموض في ظرف واحد من هذه الظروف، بل كان فيها جميعا، بداية من ريجينى نفسه الذي لم تتفق جهات التحقيق مع الوسائل الإعلامية التى تصدت أو تناقلت أو تناولت الجريمة التي أحاطت بها دوائر الغموض منذ اختفاء ريجينى ليلة الخامس والعشرين من يناير الماضي وحتى ظهور جثته ملقاة في الطريق بعدها بعشرة أيام.
فما هو معروف عن ريجيني، أنه في مصر، ليقوم بأبحاث لنيل درجة الدكتوراة من جامعة كمبردج ببريطانيا، عن الحركات والنقابات العمالية الخاصة وينشر تقارير ومقالات صحفية لصحف في الخارج باسم مستعار أحيانا، كما أنه مقيم بحى الدقي وله علاقات ببعض النشطاء والدارسين حسب ما تتطلبه طبيعة مهمته كباحث، حيث يتردد على الجهات والهيئات والأشخاص التى يمكن أن تتعلق بهم أبحاثه في عدة أماكن ولكن ما لم يتم الكشف عنه هو إن كان يمارس دورا بحثيا علميا فقط، أم أن الأمر له جوانب لصالح جهات ما وهذا ما لم تتطرق إليه التحقيقات.
والظروف التي عثر فيها على جثة جولويو ريجيني، بطريق القاهرة الإسكندرية الصحراوي بدائرة قسم شرطة مدينة 6 أكتوبر، كانت غامضة أيضا، فالجثة ملقاة على مفترق طريقين رئيسين يشهدان حركة مرورية كثيفة ومعنى وصول المجهول الذي ألقى بالجثة إلى تلك النقطة في الطريق، هو أنه مر على مناطق كثيرة كان يمكنه التخلص منها في موضع لا يسهل فيه اكتشاف الجثة بتلك السرعة التى بدت فيما بين إلقائها والعثور عليها على بعد أمتار من نهر الطريق السريع.
كما أن ردود الفعل فور اكتشاف الجثة، بدت حادة قبل انتظار أي معلومات عن الحادث وجرت حملة منظمة من نشطاء مصريين وأجانب سارعت بتوجيه الاتهام إلى الأمن المصري قبل البدء في التحيق وكأنهم ينتظرون ما كان ولا يخفون أن كل أدلتهم هي الظن والتخمين دون أى دليل أو قرينة أو حتى معلومة شبه مؤكدة.
وطريقة التعذيب الوحشية التى تظهر آثارها بوضوح على الجثة، لا مبرر لها إلا الإيحاء بأن الذي فعل هذا ينتقم من القتيل البالغ من العمر "28 سنة" انتقاما يظهر فيه مدى تشفيه، فهناك آثار صعق بالكهرباء وحرق بالجلد وكسور بالضلوع من أثر ضرب بعصا وقطع بالأذن والأنف بآلة حادة وسحجات وكدمات متفرقة في الجسم بالكامل والجثة شبه عارية، كما أن هناك إصابة قاتلة من جراء آلة حادة في مؤخرة الرأس.
كما أن أقصى تاريخ لوفاة الشاب لا يزيد على 3 أيام قبل العثور عليه وأن الجثة لم تمكث على الطريق طويلا، حيث لم تظهر عليها آثار العوامل الجوية أو رمال بالرغم من أنها في طريق صحراوي مكشوف، فضلا عن سهولة اكتشافها لقربها من الطريق.
المثير للدهشة أنه مع اختفاء جوليو ريجيني، قامت حملة من بعض وكالات الأنباء والمواقع الإلكترونية والمنظمات الحقوقية، تومئ باتهام الشرطة المصرية بالقبض عليه في الدقي -حيث يقيم- وذلك في أثناء سيره في طريق محطة مترو "البحوث" وأن كاميرات 4 محلات تجارية بالشارع سجلت قيام شخصين بالقبض عليه ويرجح أنهما من رجال الأمن، ولم تبين هذه المنظمات معنى كلمة "يرجح" فلم تذكر أن اللذين ضبطاه كانا يرتديان الملابس الرسمية الخاصة بالشرطة، واكتفت بالترجيح القائم على مجرد طرح الأمن المصري ليكون طرفا في قضية اختفاء جوليو.
وبعد العثور على الجثة سارعت بعض المنظمات الحقوقية والنشطاء السياسيين، باتهام الشرطة المصرية بقتله والتخلص منه وكان ما كان يوم العثور، من موقف وزيرة الصناعة الإيطالية التى حضرت إلى القاهرة على رأس وفد من المستثمرين صبيحة يوم العثور على الجثة وكأن الذي ألقى بالجثة يختار هذا التوقيت بإبلاغ رسالة ما بشأن الاختفاء والإخفاء والعثور.
ولا يخفى أن اتهام أجهزة الأمن المصرية لا يقوم على أي دليل سوى أن آثار التعذيب التى وجدت على الجثة تستند إلى اتهام عام للشرطة بالتعذيب وتقوم باللعب على العواطف الكارهة والحانقة على الشرطة لوقوع بعض التجاوزات من بعض العاملين فيها، يتوازى ذلك مع حملة إعلامية لإثبات أن التعذيب هو الأسلوب المتبع للشرطة عند الاستجواب ولم تجد هذه الجهات صاحبة الاتهام، سوى تلك الأجواء الملبدة بالحنق والتى لا يقوم عليها أي دليل مادى سوى التخمين المستند على هذه الدعاية المضادة للأمن.
"لماذا إيطاليا؟"
عندما تعرض المبنى التابع للقنصلية الإيطالية في شارع الجلاء بمنطقة بولاق أبو العلا بوسط القاهرة في صباح يوم 11 يوليو 2015، لحادث تفجير ضخم بواسطة سيارة ملغومة أسفر عن مصرع مواطن مصري تصادف مروره وإصابة عدد من المواطنين بينهم رجال شرطة، تساءل الكثيرون: لماذا الاستهداف الإرهابي للمنشآت الإيطالية في مصر؟!.. ولماذا في هذا التوقيت؟!، بالرغم من أن التنظيمات الإرهابية التى أعلنت مسئوليتها عن الحادث، لم يسبق لها أن وضعت إيطاليا في مقدمة مقاصدها الإرهابية التى تعلن عنها، كما أن دور إيطاليا في مكافحة الإرهاب لا يزيد على أي دولة أوروبية!
الأمر ساعتها بدا غامضا ولكن التحليلات أشارت إلى الدور الذي لعبته شركة إيطالية في كشوف الغاز في البحر المتوسط وهو الكشف الذي أثار حنق الكثير من الدول التى تكن العداء لمصر جهرا وسرا وكان امتياز الكشف عن الغاز مجال لمنافسة شركات عالمية تابعة لدول كبرى، يمكن أن تنتهج أي وسيلة لعقاب مصر وإيطاليا على هذا التعاون الذي لا يرضي كثيرا من القوى الدولية وتوابعها الإقليمية، وقد وقع كثير من الحوادث بسبب هذا التنافس المحموم، حيث لا تتورع هذه القوى عن استخدام المنظمات الإرهابية لتصفية حساباتها، حيث ترتكب جرائم ما تتسم بالغموض مع حملة إعلامية وتسريبات توجه أصابع الاتهام إلى من تريد توريطه، وهو أسلوب تقليدي لم تستطع بعض الأجهزة المسئولة عن الأمن الخارجي لبعض الدول، تجاوزه وسبق أن استخدمته هنا في مصر لتصفية بعض الملفات عن طريق استغلال حوادث كبرى تتخذها ذريعة للتدخل أو إيقاع الفتنة، وهناك قطاعات متخصصة في كل جهاز من تلك الأجهزة مهمته استغلال الحوادث وتضخيمها وبث معلومات مغلوطة يتم توجيهها لمصالح دولها، وإن لم توجد حوادث مناسبة في توقيت ما، فالحل هو إحداث تلك الفتن باستخدام الأبواق الإعلامية التى تبدو مستقلة وبعيدة عن كل ذلك، بينما توجه بشكل مباشر أو غير مباشر.
"موضات قديمة"
ولكن في حادث ريجيني، تم التركيز على ترسيخ اعتقاد بأن ما في جثة ريجينى من آثار تعذيب هو المنهج التقليدي المتبع عند الاشتباه في متهم لدى أجهزة الأمن المصرية، معتمدين على صورة ذهنية لرجل الشرطة الفظ الذي يقوم بصعق المتهم بالكهرباء وإطفاء أعقاب السجائر في جسده وهذه أساليب ساذجة وتدعو للسخرية، لأن هذه الصورة التى تم الترويج لها في فترة الستينيات، قد صارت غير واقعية وكانت أيام لم يكن معتادا على أن يقدم إلى النيابة بلاغ بواقعة تعذيب ما، بل وأنه في قضية مقتل مأمور البداري الشهيرة في عشرينيات القرن الماضي، أدانت محكمة النقض ما ارتكبته ساعتها أجهزة الأمن في حق بعض الأهالي من تعذيب وقع دون ما تعرض له ريجيني بكثير، ثم أن العالم كله يعلم أن هناك وسائل حديثة للضغط على المتهمين بوسائل معينة وإن كانت غير قانونية ولا إنسانية، إلا أنها أكثر جدوى وتأتى بنتائج أفضل من التعذيب، ثم إنه حتى عند اللجوء لوسائل غير قانونية تدخل في إطار التعذيب، فإن التقدم التكنولوجي أسهم في استحداث أجهزة وأدوات للتعذيب الذي لا يترك أثرا، بينما نحن نجد أن الذي عذب ريجيني حريص على توصيل رسالة واضحة بأنه تم تعذيبه بأدوات بدائية بطل استعمالها في كل أجهزة الأمن في العالم كله، في الوقت نفسه ليست هناك أية دوافع يمكن أن تجعل رجل شرطة يغامر في الظروف الراهنة التى ترى الشرطة فيها مستهدفة من عدة جهات وموضوعة تحت المراقبة الرسمية والشعبية مع إمكانية كشف ما يمكن أن يفعله رجل الشرطة، ويعرضه للمساءلة التى يمكن أن تنتهى بتقديمه للمحاكمة.
فمنذ تسعينيات القرن الماضي وعلى مستوى العالم، ظهرت أجهزة تعذيب حديثة، بدأ استعمالها في دول كبرى من المتشدقة برعاية حقوق الإنسان على مستويي الأمن السياسي والجنائي، فقد كان من شأن هذه الأجهزة ألا تترك أثرا ولا تعطى فرصة لمتهم بأن يظهر عليه إثر تعذيب يقدم به فاعله للمحاكمة وكم عانى الأمن المصري في الفترة السابقة من كثير من الاتهامات والاستفزازات على عدة جبهات ومن عدة جهات، وتم تقديم قيادات كبيرة في الداخلية المصرية للمحاكمة في قضايا شهيرة، بعضها حكم بالبراءة، وبعضها بالإدانة وهناك ضباط شرطة في البدل الزرقاء في الزنازين يقضون عقوبات في أقل مما حدث لريجيني، فلا نستبعد براءة الشرطة من تعذيب ريجيني إلا لأن الذي عذبه ليست لديه الخبرة الكافية لإلصاق التهمة بالشرطة.
"ببساطة إنه أجنبي"
هذا مع ضرورة الوضع في الاعتبار أنه في حال القبض على ريجيني مع وضوح أنه غير مصري، فلذلك إجراءات مختلفة ينظمها القانون في حال القبض والتحقيق مع شخص أجنبي في أي قضية سياسة أو جنائية، من ضرورة إخطار السفارة التابع لها وإخطار الأجهزة السيادية في البلاد لتجنب تحمل المسئولية في حال وقوع أي تطور، فهو إما أن يكون متهما فتتخذ معه الإجراءات المنظمة لذلك، أو ترى السلطات ضرورة ترحيله لبلاده وحينئذ ينتفي مبدأ التعذيب لعدم الحاجة إليه، فيكفي رفع مذكرة بضرورة ترحيله واتخاذ الإجراءات التقليدية المتبعة في ذلك وقد حدث هذا مرارا مع عناصر أجنبية ألقي القبض عليهم ووجهت لهم اتهامات ومنهم من صدرت ضدهم أحكام نهائية وتم مبادلتهم أو ترحيلهم لقضاء العقوبات في بلادهم حسب ما تنص عليه الاتفاقيات المعتمدة في ذلك الشأن.
"توريط الأمن"
لم يكن خافيا أن اختفاء ريجيني وظهور جثته تما في توقيتين مقصودين، بربط الاختفاء ليلة 25 يناير الماضي مع دعوات خافتة جدا، لم تلق أي استجابة شعبية، للتظاهر في ذكرى الثورة، كان له دلالته، كذلك ظهور الجثة في يوم زيارة الوفد الاقتصادي الإيطالي.
"سوابق تاريخية"
ارتكاب جرائم من جانب جهة ما وتوجيه الإدانة بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى جهة أخرى لتحقيق مكاسب معينة، أمر مشهور في صراعات الدول ومحاولة فرض قراراتها وتثبيت مصالحها وفي تاريخ مصر المعاصر حوادث تم ارتكابها أو استغلال وقوعها لإحراج الحكومة المصرية، لتحقيق أغراض سياسية، فقد تمت في يوم نوفمبر من عام 1944 جريمة اغتيال راح ضحيتها "لورد والتر موين" الوزير البريطاني المقيم في شارع حسن صبري في الزمالك على يد الإرهابيين (إلياهو حكيم وإلياهو ميتسورى) اللذين انتحلا صفة عاملين بمصلحة التليفونات المصرية، نفذا خطة الاغتيال التي وضعتها منظمة "ليحي" الصهيونية التى ينتميان إليها وكان من بين أهدافها المقصودة، إحراج الحكومة المصرية وتوجيه أصابع الاتهام إلى الحركة الوطنية، وكاد الإرهابيان يفلتان من الجريمة لولا بطولة "الكونستابل عبد الله أفندي" رجل الشرطة الذي كان منتدبا لمتابعة الحالة الأمنية في المنطقة التى شهدت الحادث الذي تم في أعقاب فشل جريمة كبرى كانت سترتكب قبلها بشهور حيث كانت مصر تستعد للتحضير لإعلان تأسيس جامعة الدول العربية بدعوة رؤساء الحكومات العربية لتوقيع ميثاق الجامعة، فهذه المنظمة نفسها خططت لنسف قصر "أنطونيادس" في الإسكندرية حيث كان الزعيم الوطنى مصطفى النحاس يحتفل بالتوقيع هناك مع الوفود العربية هناك، لكن المحاولة باءت بالفشل.
وقد تم إعدام المجرمين بعد محاكمتهما.
ولا يخفى مدى الفوضى التى كان يمكن وقوعها لو تم تفجير القصر أو أفلت المجرمون بجرائمهم.
هناك أيضا جريمة فضية "لافون" الشهيرة، حيث خططت إسرائيل في صيف عام 1954 لضرب مصالح ومؤسسات ودور سينما أمريكية وبريطانية في القاهرة والإسكندرية وعدد من المدن المصرية، لإثارة الفوضى وعرقلة جلاء القوات البريطانية ولإيقاع الفتنة بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، لكن تم كشف المخطط بعد تنفيذ عدة أهداف منه بعد تلقي الإشارة من خلال برنامج يذاع على راديو إسرائيل!
وعلى إثر كشف المخطط ومن ثم فشله استقال وزير الدفاع الإسرائيلي بنحاس لافون الذي سميت باسمه الفضيحة، على إثرها وقد كتب بن جوريون رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كتب يقول: "أنشأنا وحدة للتخريب تعمل كوحدة كوماندوز خلف خطوط العدو، وفى قلب العدو، يكون لها أدوار حاسمة لتنشيط الخلايا فى مصر".
وقد صدرت أحكام بالإعدام والسجن لمن ألقى القبض عليهم، فقد تم إعدام موسى ليتو مرزوق وصمويل بخور عازار، والأشغال الشاقة لكل من: فيكتور ليفي وفيليب هرمان ناتاسون والأشغال الشاقة لمدة 15 سنة لكل من مرسيل نينيو وروبير نسيم داسا والأشغال الشاقة لمدة 7 سنوات لكل من مائير يوسف زعفران ومائير صمويل ميوحاس.
ولا ننسى أنه في خضم الأحداث التالية لثورة 25 يناير عام 2011،تم محاولة تكرار فضيحة لافون بصورة مختلفة، إذ ظهر في ميدان التحرير شاب يوحى بأنه متظاهر مصري يحمل لافته، تحمل سبا موجها إلى الرئيس الأمريكي باراك أوباما وهو ما تبين أنه كان مجندا في الجيش الإسرائيلي وشارك في وقفات ومظاهرات وتنقل بين عدة مواقع قبل كشفه والقبض عليه، حيث كان دخل البلاد بتأشيرة مزورة في أعقاب الثورة على أنه مراسل صحفي، لم يكد يزور موقع في مصر إلا وتندلع خلفه الحرائق.
فهذا ما تم كشفه وإعلانه، بينما تبقى ملفات الجرائم الغامضة باقية تنتظر إزاحة الغموض عنها.