ربما لا تصدق المشهد إذا كنت أحد المصطفين الذين جاءوا في الصباح الباكر أمام أبواب شباك التذاكر لمهرجان الموسيقى العربية لحجز مقاعدهم في حفل نجمهم المفضل مدحت صالح، ما بين مسنيين يتكئون على عصا خشبية لمرضهم أو لشبيتهم، وكذلك الشباب من مختلف الفئات العمرية الذين تنوعت فئاتهم العمرية ما بين صغار تركوا دراستهم الجامعية أو آخرين حضروا باكرًا للحصول على رقم للحجز وذهبوا لمتابعة أعمالهم، وعادوا مجددًا حتى يحصلوا على تذاكرهم، وكانت العبارات الأكثر تداولًا في كواليس هذا المشهد "هو مدحت صالح خلص" أو "أنا عاوزة مدحت قبل ما يخلص احجز لي معاك".
موضوعات مقترحة
مسرح كامل العدد، وجمهور يصفق لنجمه قبل صعوده على خشبة المسرح، وانسجام تعلو معه أصوات الحضور الذين يحفظون أغانيه عن ظهر قلب، هكذا كان المشهد في حفل الفنان مدحت صالح الذي قدم حالة خاصة لم يبخل فيها على جمهوره بتقديم مختلف الألوان الغنائية من التراث وأعماله الخاصة كل ذلك مكللًا بحالة من البهجة التي ظل الفنان يداعب بها جمهوره بين الحين والآخر.
يبدأ صالح فقرته بالغناء للوطن بتقديم أغنيته الشهيرة "زي ما هي" من فيلم "مافيا" وسط تفاعل جماهيري كبير حيث طالبوا الفنان بإعادتها مجددًا، ثم قدموا له التهنئة بعيد ميلاده، فيرد الفنان: "وانتوا طيبين بس خلاص دا فات بقى كان يوم اتنين ، ودكتورة إيناس مخلتنيش أعمل الحفلة يوم عيد ميلادي" ثم يداعبهم قائلاً: "بحبكم أكتر مما هاني شاكر بيحبكم".
"كوكب تاني" و "تلات سلامات" أغاني باتت شعارًا في حفلات النجم على مدار سنوات مهرجان الموسيقى العربية الخامس والعشرون، فمنذ دخوله على المسرح وتظل الجماهير تهتف بها مطالبين فنانهم بالبدء بغنائها، ورغم احتفاظ صالح بهذه الأغاني في برنامجه لكنه تخلى هذه المرة عن تقديم بعض الأعمال مثل أغنية "المليونيرات"، "حبيبي يا عاشق"، ليفاجىء جمهوره بباقة آخرى من الأغاني المنتقاة بعناية وذكاء، والتي تكلل لتقدير الفنان لوقوفه على خشبة هذا المسرح والاحتفاظ بالهوية الفنية التي يغني تحت شعارها "مهرجان الموسيقى العربية" فلم يكن برنامجه مقتصرًا على أغانيه الخاصة بل كان التراث المتنوع هو صاحب النصيب الأعظم في حفل الفنان.
رائحة الماضي تعطر جنبات المسرح الكبير على صوت مدحت الصالح العذب الذي يجمع بين الإحساس والدفء، وتبدأ حالة السلطنة مع بداية غناؤه لأغاني كوكب تاني، بحلم على قدي، الدنيا لو هتيجي أحد أهم الأعمال التي أثرت في مشواره الفني وارتباط الجمهور بأغانيه والتي ظل يرددها معه طوال الحفل، ويستكمل ذلك بتقديم عدد من أعماله المعاصرة فيتغنى بأغنيتي البلياتشو، وقلب واحد.
ربما هدف مدحت صالح في حفله بالمهرجان شديد الاستثناء هذا العام باعتبار أنها دورة اليوبيل الفضي ليس فقط إسعاد الجماهير، لكن إرضاء جميع أذواقهم، والأكثر ذكاءً منه أن اختياراته لأغاني عمالقة الزمن الماضي جاء متفقًا مع خامة صوته وتركيبته الدافئة بعكس نجوم آخرين لم يحالفهم التوفيق بحفلاتكم هذا العام في اختياراتهم للتراث، وفي هذا التنوع الذي حرص عليه صالح بحفله، نجده قدم أغنية "الحلوة داير شباكها" ل محرم فؤاد، "أشتقت إليك" لعبد الحليم حافظ، "تلات سلامات" ل محمد قنديل، "رجعوني عينيك" لأم كلثوم.
هنا يجلس رجل في منتصف الثلاثينيات في المقاعد الأمامية أمام الفنان لم يتوقف عن الغناء والانفعال معه بحركات يديه، وبجواره قليلًا تجلس سيدة في الخمسينات تبدو أمامها الرؤية غير واضحة نحو الفنان بسبب تصدر المايسترو صلاح غباشي المنصة فتتطلب من الفنان أن يقف أمامها فيداعبها مشيرًا بيديه نحو المايسترو قائلاً بهمس: "أعمل ايه ما هو اللي واقف وسط ابتسامته وضحكاته المعهودة ثم يحرك الميكرفون قليلًا إرضاءً لها".
وفي درجات تعلو المسرح قليلًا فتاة في العشرينات تجلس منفعلة تبكي بحرارة على بعض الأغاني، وتصفق بقوة وتغني بنفس الانفعال مع أغاني الفرح التي قدمها، وفي مقاعد "اللوج" يقف شباب وإناث يهتفون ويصفقون ويلقون التحية للفنان، ولين هذا وذاك من المشاهد التي لا تنسى من حضور الجمهور في حفل الأمس كثير من المسنين الذين لم يستطيعوا الانفعال إلا بإرسال كلمات الإعجاب للفنان "يا مدحت يا حلو، إيه ده هو فيه كده".
شراكة على المستوي الفني والإنساني كللت لأخوة، وكيمياء خاصة يتفاعل بها الصوت العذب مع الأنامل الذهبية للمايسترو عمرو سليم على آلة البيانو، والذي يبقى الاعتماد عليه بالأساس طوال الحفل، هذا الموهوب الآخر الذي يكمل منظومة النجاح لدى مدحت صالح، ولم تمنعه إعاقته بفقدان البصر من الإحساس بالموسيقى والانفعال معها وخلق حالة شديدة الخصوصية من الإبداع، حتى أن مدحت صالح يعتبره تميمة نجاحه الواسع والمستمر، فلا ينتهي من تقديم أغنية إلا ويشير بيديه نحو صديقة الرحلة حتى يوجه التحية له هو، ويتكلل ذلك بأخذه من مقعده على البيانو حتى يقدم الجمهور التحية له في نهاية الحفل.
ويبدو التأثير والتأثر بين المبدعين مدحت صالح، وعمرو سليم حينما يتغنى الأول بأغنية "النور مكانه في القلوب" والتي أغمض فيها عينيه وظل يشاور بحركات يديه وكأنه يصف حال صديقه الذي تحدى الحياة تحديدًا في المقطع الذي يقول فيه "يا تكون قد الحياة.. يستعين وحيد وسط الدروب".
مدحت صالح حالة غنائية استنئائية، نجح في أن يجمع في حفله ليلة أمس بتقديم ثلاثية النجاح "الطرب، خفة الظل، الأناقة في الملابس والرقي في التعامل مع الجمهور"، جاء ليسعد ويرضي الأذواق، ولم ينس سخريته من المشهد الأخير في الانتخابات الأمريكية بين ترامب وكليتون حينما قال: "بيقولك هيلاري بتقول لترامب لازم تعرف أن المسلمين مش بيحبوك، فرد عليها ترامب قائلًا: على أساس إنك لسه راجعة من العمرة" الأمر الذي تعالت معه ضحكات الجمهور مفتتحًا بحفله بمزيد من الجذب والتفاعل الجماهيري.