برصيد فني بلغ ثلاثة آلاف لحن بات يُنظر إليه باعتباره أحد البنائين لصرح موسيقانا الشرقية، تميز عن جميع ملحني الزمن الجميل باختراع سبعة إيقاعات جديدة للموسيقى العربية، كانت له فلسفته اللحنية الخاصة التي تنظر إلى الأغاني باعتبارها قطعا فنية منحوتة، أو لوحات زيتية مرسومة تماما كفن النحت والرسم اللذين أتقنهما، فاستحق بذلك لقب "نحات الموسيقى" فكان موسيقارا عبقرياً ترك آثاره الخالدة في تاريخ الأغنية العربية، وفى الوقت نفسه أثرياً عظيماً أهلته مواهبه ليصبح كبير رسامي المتحف المصري، إنه الموسيقار أحمد صدقي الذي تحل اليوم ذكرى وفاته الثانية والثلاثين.
موضوعات مقترحة
كانت مدينة العياط بجنوب الجيزة في صباح يوم الرابع من أكتوبر عام 1916على موعد مع ميلاد الموسيقار أحمد صدقي، لأسرة كان يعمل عاهلها مأمورا للبوليس في قسم الجيزة، لكن صرامة الأب والتزامه لم يحل دون تنمية مواهب ولده الذي أبدى ميلاً للموسيقى والنحت والرسم.
وحينما حصل أحمد صدقي على شهادة البكالوريا أراد أن يجعل من موهبته ميداناً لدراسته، فتخرج من مدرسة الفنون التطبيقية مع طليعة الثلاثينات، وما إن تخرج حتى حصل على وظيفته الأميرية، رساما لدار الآثار المصرية، وهى الوظيفة التى ظل يمارسها حتى تقاعده على المعاش، حتى أنه أصبح كبيراً لرسامى المتحف المصرى.
تتلمذ الفنان الشاب على يد عميد الأثريين المصريين الدكتور سليم حسن، وأتاحت له جولاته للتنقيب والبحث عن الآثار في أن يتعرف عن قرب على الفن المصري، ومنحته تلك الجولات فيما بعد نبعاً صافياً للألحان بكافة مشاربها، الشعبي، والبدوي، والوطني، والديني.
لكن وظيفته الحكومية لم تمنعه من المشاركة بمنحوتاته في عدة معارض فنية، وكانت من أهم منحوتاته تمثال "الفلاحة المصرية"، "محمدين النوبي" وقد لفت هذا التمثال الأخير إعجاب الملك فؤاد فاشتراه بمبلغ 20 جنيهاً .
ومع منتصف الثلاثينات لم تكن رحلة صدقي مع الموسيقى قد بدأت بعد، فالتحق بمعهد الموسيقى العربية، وتخرج منه بتفوق، وفى أثناء ذلك تم ترشيحه في بعثة دراسية للالتحاق بمعهد دافنشى للرسم الأثري في روما، لكن اندلاع الحرب العالمية الثانية حال دون ذلك، ولكن رُب ضارة نافعة، فواصل صدقي دراسته الموسيقية بالقاهرة، ليملأ فيما بعد سماء الموسيقى العربية ببدائع الألحان.
انجذب صدقي للألحان الشرقية الأصيلة، فعمل في بداية الأمر مرددا للموسيقى "كورس" في عدة فرق، وأبدى إعجاباً بألحان سيد درويش، وسلامة حجازي، و زكريا أحمد، واتصل بالشيخ درويش الحريري، فتعلم على يديه المقامات الموسيقية، وأداء الأدوار، والموشحات، فكان ربياً لمدرسة الشيوخ التطريبية في الموسيقى العربية.
اتخذ أحمد صدقي من دهاليز "الحضارة الفرعونية" طريقه لعالم الألحان، فقد كانت الإذاعة المصرية الوليدة التي دوى أثيرها لأول مرة عام 1934، تقدم برامجها الغنائية، وأسندت الإذاعة في ذلك الوقت إلى مدير المتحف المصري أحمد يوسف مهمة تزويد الإذاعة بالمادة التاريخية لبرنامج إذاعي عن وفاء النيل عند الفراعنة، وتم إسناد تلحين البرنامج للشيخ زكريا أحمد، لكن الاختلاف حول الأجر المادي حال دون ذلك، فتم ترشيح أحمد صدقي لتلحين البرنامج، وكانت البداية، ونجح البرنامج، واعتمد أحمد صدقي ملحناً ومغنيا في دار الإذاعة بشارع الشريفين.
رحلة الموسيقار أحمد صدقي مع الإذاعة كانت الأبرز من بين جميع الملحنين، وعطائه الموسيقى كان الأغزر، فاستقى ألحانه من التراث الشعبي الذي استمده من جولاته الأثرية، فأسس ما يُسمى بـ"ركن الريف" في الإذاعة المصرية، وقد اختص بتقديم الأغنيات والبرامج الغنائية الدرامية عن حياة الفلاحين في القرى المصرية، وقدم صدقي عدة أصوات ناجحة مثل إبراهيم حمودة الذي شارك كوكب الشرق أم كلثوم بطولة فيلم "عايدة" عام 1942، فضلاً عن سيد إسماعيل، وعصمت عبد العليم، وسعاد مكاوي، وغيرهم.
وعبر سنوات امتلك أحمد صدقي أكثر من 500 عمل موسيقي بالإذاعة من "الصور الدرامية" الموسيقية، و"البرامج الموسيقية"، ولم يستطع غيره من الملحنين أن يدانوه فى هذا الرصيد، وقد حفرت هذه الأعمال نفسها في ذاكرة مستمعي الإذاعة مثل "قمر الزمان" ، و"عوف الأصيل"، و"أم شناف"، و"تمر حنة"، و"فرحة رمضان"، "قطر الندى"، "الشاطر حسن"، "سوق بلدنا"، واستطاع من خلال هذه البرامج تقديم أصوات خالدة في الموسيقى العربية، لعل أشهرها الفنانة نجاة الصغيرة حين قدمها في أغنية "طاير يا حمام ..مرسال الغرام" في المسلسل الإذاعي الشهير "أم شناف".
وقدم الموسيقار أحمد صدقي البرنامج الإذاعي الشهير "الأغاني للأصفهاني"، وهو من أمهات البرامج الغنائية في الإذاعة المصرية، حيث أعاد كتابة كلماته الشاعر عبد الفتاح مصطفى، وأخرجه "بابا شارو" محمد محمود شعبان صاحب البرنامج الشهير "ألف ليلة وليلة".
حبه للإذاعة جعله يلحن أشهر أغنية سياسية عن الراديو بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، وهى أغنية "ع الدوار ..ع الدوار..راديو بلدنا فيه أخبار" للمطرب محمد قنديل، كما صدح المطرب كارم محمود برائعته الوطنية "أمجاد يا عرب أمجاد" والتي افتتح بها البث الإذاعي لإذاعة "صوت العرب" عام 1954.
كانت البداية الفنية للموسيقار أحمد صدقي مع السينما قوية كما الإذاعة، فلحن للفنانة ليلى مراد أشهر أغانيها في أفلام "شاطئ الغرام" مثل، "يا مسافر وناسي هواك ..رايداك والنبي رايداك" و"أحب اتنين سوا ..الميه والهوا"، وفى فيلم "حبيب الروح" قدم صدقي أكثر أغاني ليلى مراد رومانسية، فعلى ألحانه غنى القمر في أغنية "كلمني يا قمر"، وأغنيتها الاستعراضية الشهيرة "شفت منام واحترت أنا فيه"، فضلاً عن أغنية "من القلب للقلب رسول".
وفى فترة الأربعينات قدم أشهر أغانيه العاطفية "عش الهوى المهجور للفنانة نجاة على، ومن كلمات الشاعر إمام الصفطاوى التي تقول "فاكراك ومش هنساك ..مهما الزمن قساك ..ولا نسيت حبي ..وإن رحت مرة تزور.. عش الهوى المهجور..سلم على قلبي سلم"، واستمر هذا الخط اللحني العاطفي المفعم بالمشاعر ، فكان صاحب أكثر أغنية شجية في تاريخ الموسيقى العربية، للفنان محمد قنديل، وهى أغنية "سماح" من كلمات الشاعر محمد حلاوة، والتي تقول كلماتها "سماح ..يا أهل السماح.. لوم الهوى جارح.. أصل السماح طبع الملاح يا بخت من سامح"، وقد اختار لهذه الأغنية مقام الصبا الشجي الحزين وهى من المقامات الموسيقية الصعبة في الموسيقى العربية، والذي لا يختاره سوى الملحن المتمكن من أدواته الموسيقية.
هذه الإبداعات الموسيقية جعلت كوكب الشرق أم كلثوم تُسند إلى صدقي تلحين أحد القصائد، وهى قصيدة الشاعر أحمد رامي "أغار من نسمة الجنوب..على محياك يا حبيبي"، لكن تدخل أم كلثوم في تلحين القصيدة، جعلت أحمد صدقي يعتذر عن حلم أي ملحن بأن تغنى أم كلثوم من ألحانه رافعاً شعار "أصون كرامتي من أجل فني".
قدم أحمد صدقي شادية في أول أغانيها الخفيفة قبل أن تشرع في التعاون مع الموسيقار منير مراد، ولعل من أشهر تلك الأغنيات، أغنيتها الشهيرة "سحر عينيكى العسلية، والسمار والخفية.. حلفولى إنك مصرية"، وهى من الأغنيات التي تتحدث عن المرأة المصرية في أعقاب ثورة يوليو.
أصبح أحمد صدقي أشهر من لحن الأغاني البدوية حين قدم الأغنية الشهيرة " يا صحرا المهندس جاى"، وأُسند إليه وضع الموسيقى التصويرية لعدة أفلام شهيرة مثل موسيقى فيلم "أمير الانتقام" لأنور وجدي، وفيلم "إضراب الشحاتين"، و"جعلونى مجرما".
لحن الموسيقار أحمد صدقى للعديد من نجوم زمن الفن الجميل، فغنت له سعاد محمد " من غير حب الدنيا ده إيه"، وغنت شهرزاد أغنية"البخت"، وفايزة أحمد "حلو ياللى ماشى"، ومحمد عبد المطلب "بصعب على روحى لما بشوف حالى"، وكارم محمود "يا حلو ناديلى"، وظل صدقي ينقب عن الأصوات كتنقيبه عن الآثار، فاكتشف قبل وفاته، صوت الفنان التونسي لطفي بشناق ولحن له أغنية "جرى إيه في الدنيا يا ناس"، وإيمان الطوخى في موشح "ما على العاشق ملام" .
اخترع أحمد صدقي سبعة إيقاعات جديدة في الموسيقى الشرقية، وسماها بأسماء أولاده مثل مقام "الأشرف"، و"الشريف" و"السماح" و"المكمل" و"المحمدى"، وقد قامت الفنانة بتسجيل هذه الإيقاعات للفنان أحمد صدقي، ونالت براءة اختراع، وما زالت العديد من الرسائل الأكاديمية الموسيقية تناقش الأثر الموسيقى لألحان أحمد صدقي.
ولخبرته الكبيرة في التمييز بين المقامات الموسيقية، تولى أحمد صدقي رئاسة لجنة اختيار قراء القرآن الكريم بالإذاعة والتلفزيون قبل اعتمادهم، ونال من الرئيس السادات شهادة "الجدارة" .
وفى مثل هذا اليوم الرابع عشر من يناير عام 1987، توقف عود "نحات الموسيقى" عن تشكيل الألحان، بعد أن ملأ سماء الأغنية العربية بروائع الألحان التي تغنى بها كبار نجوم زمن الفن الجميل، وتوفى الفنان أحمد صدقي عن عمر ناهز 71 عاما.
صورة تجمع احمد صدقي مع فريد الاطرش و محمد القصبجي صورة احمد صدقي مع تمثال الفلاحة المصرية صورة احمد صدقي داخل احد المقابر الفرعونية احمد صدقي في احد المقابلات التلفزيونية احمد صدقي يتسلم شهادة الجدارة من الرئيس السادات احمد صدقي احمد صدقي