لون الدماء في أرجائها لا يدل على أن أبا الأنبياء إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان يحلب بقرته الشهباء في سلام فوق تلالها لتكتسب من هذا الموقف اسمها، لكن صوت البراميل المتفجرة يعيد للأذهان مشاهد الغزو التترى، حين أوصى هولاكو جنوده بألا يتركوا بها حجرًا على حجر.. إنها مدينة حلب السورية التي تحولت لمحرقة يذكى نارها تارة قوات النظام، وأخرى فصائل المعارضة والعصابات الإرهابية، ولا عزاء للمدنيين الأبرياء من هذا اللهيب المستعر.
موضوعات مقترحة
مظاهر القذف والقتل والترويع لن تستطيع أن تمحو عن حلب بسهولة ذلك التاريخ العظيم الذي تضرب جذوره بقوة في أعماق الحضارة الإنسانية، حيث ظهرت المدينة على الساحة التاريخية منذ أن اتخذ منها الحيثيون عاصمة لهم، قبل أن يتغلب عليهم فرعون مصر تحتمس الثالث في القرن الرابع عشر قبل الميلاد في معركة "مجدو" التي خلّد ذكرها على مسلاته الحربية في وادي النيل.
ظلت حلب تحت سيطرة الحيثيين حتى حكم الأشوريين قبضتهم عليها عام 853 ق.م، ثم انضمت لرقعة ملك البابليين في القرن السادس قبل الميلاد، وظلت على هذه الحال حتى نجح الإسكندر الأكبر في ضمها لدولته الشاسعة عام 333 ق. م، وفى عصور سيطرة الإغريق والرومان، لم تكن حلب غائبة عن الخريطة الاقتصادية لهذه الدول باعتبارها مقصدًا لملتقى طرق التجارة في العالم القديم، حيث اعتبرتها الإمبراطورية البيزنطية الشرقية باديتها الحصينة في الساحل السوري.
جاء الإسلام ليتغير معه الوجه السياسي والحضاري للمدينة السورية العتيقة، حيث اشترك الصحابيان أبوعبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد في فتحها عام 16 هـ، وضمها لرقعة الخلافة الراشدة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه - وعلى مدى ثلاثة قرون توطد خلالها الإسلام واللغة العربية في حلب، ظل المؤرخون ينظرون إليها باعتبارها أحد المراكز الحضارية في أرض الشام خلال عهد الأمويين والعباسيين.
غير أن تاريخ المدينة قد اكتسب فصلًا من العز والعظمة لم تبلغه من قبل حين اتخذها سيف الدولة الحمداني "333 -356هـ" عاصمة لدولته العربية العلوية، وبنسب عربي يمتد لقبيلة تغلب، أحد أشهر قبائل العرب، نصب سيف الدولة نفسه حاميًا للعروبة والإسلام على ثغور الشام أمام التهديدات البيزنطية، فحاز ثقة وتأييد الخليفة العباسي في بغداد.
وعلى مدى 30 عامًا، تمكن سيف الدولة من تسديد هجمات موجعة للإمبراطورية البيزنطية الشرقية التي تتخذ من القسطنطينية عاصمة لها، فدك الحصون وهاجم المدن، وأجاد شاعر العربية الأكبر أبوالطيب المتنبي وصف معارك سيف الدولة ضد نقفور الثاني وخلدها في أشعاره، بما بات يعرف بـ"السيفيات".
الواقع المدمر للمدينة حاليًا لا يسمح باستحضار إبداعات علمائها خلال عهد سيف الدولة الحمداني، كالحكمة التي صاغها فيلسوف العرب الأول أبونصر الفارابي في مؤلفاته، أو القصص التراثية التي كتبها أبوالفرج الأصفهاني في كتاب "الأغاني"، أو تلك العاطفة الجارفة التي نسجها أبوفراس الحمداني في أشهر قصيدة غزلية صاغها العرب "أراك عصي الدمع".
هذه النهضة السياسية والحضارية ما كانت لترضى القسطنطينية التي وجهت ضربة قاصمة لسيف الدولة حين هاجمت عاصمته حلب ودمرتها قبل 3 سنوات من وفاته عام 353 هـ، إلا أنه عاد ليعمرها من جديد، ولكن الموت عاجله قبل أن يعيدها لسابق ما كانت عليه.
وظلت حلب غارقة في الفوضى والاضطرابات لقرنين من الزمان خلال حكم الفاطميين، إلا أن الحملة الصليبية الأولى خلال القرن الخامس الهجري برغم ما حملته من دمار وخراب للعالم الإسلامي، إلا أنها أشعلت نيران الجهاد المقدس ضد الصليبيين، وقد حملت حلب شعلة هذه الجهاد فى عهد الأمير عماد الدين زنكي "521- 541" حيث حرر العديد من المدن العربية من قبضة الصليبيين لعل أبرزها إمارة الرها، واستمرت هذه المسيرة فى عهد ولده نور الدين محمود "541 – 579".
ولأكثر من 35 عامًا أصبح السلطان نورالدين محمود ومدينته حلب رمزًا للمقاومة ضد الصليبيين، واتسع ملكه ليشمل الموصل ومعظم الشام، وتصدى للحملة الصليبية الثانية، ثم قام بضم مصر لإمارته، بعد أن أسقط الفاطميون فيها على يد كبير مساعديه صلاح الدين الأيوبي، وبذلك مهد ذلك السلطان المجاهد الطريق أمام صلاح الدين الأيوبي لمحاربة الصليبيين وفتح القدس عام 583هـ في معركة حطين، بعد أن توحدت مصر والشام في دولة واحدة.
سقوط المدينة بأيدي المغول كان الفصل الأكثر إيلامًا في تاريخ المدينة القديم، حين حاصرها هولاكو خان قائد المغول بنفسه عام 658هـ، وبعث بالتحذير والنذير لصاحبها السلطان توران شاه الأيوبي، الذي رفض تسليم المدينة، بعد أن قطع أهلها عهدًا بالاستبسال في الدفاع عنها، غير أن القوة الغاشمة لقذف المجانيق التترية أسقطت سور المدينة، وتمكن جند هولاكو من دخولها، وأمر باستباحة المدينة أسبوعًا كاملًا، أباح فيه القتل والتخريب قائلًا: "لا أريد أن أرى حجرًا على حجر".
المذابح التي نفذها جنود هولاكو بحق أهل حلب، نقلها مؤرخ المدينة كمال الدين بن العديم في مجلداته التاريخية الضخمة "بغية الطلب في تاريخ حلب"، والتي كتبها بخط يده في 40 مجلد، تناول فيها تاريخ المدينة في كافة العصور.
وقد اضطر ابن العديم إلى مغادرة حلب إلى القاهرة، حيث لقي من سلاطينها الكثير من مظاهر الحفاوة والتكريم، وحين تحقق النصر على المغول في عين جالوت عام 658 هـ على يد السلطان سيف الدين قطز، عاد ابن العديم إلى حلب فوجدها مدينة أشباح خالية على عروشها، فعاد إلى القاهرة كسير الفؤاد، وما لبث أن توفى بعد ذلك.
أصبحت حلب من أهم مدن الشام خلال عهد السلاطين المماليك، سواء فى دولتهم الأولى "المماليك البحرية" من عام "648-784 هـ" أو دولة المماليك الثانية "الجراكسة" بين عامي "784- 922هـ" حين تمكن السلطان العثماني سليم الأول من هزيمة السلطان المملوكي قنصوه الغوري بمرج دابق بالقرب من حلب عام 922هـ.
لقد ظلت حلب بتاريخها الطويل عصية على المعتدين الذين حاولوا طمس هويتها، شاءت لها الأقدار أن تُهدم لتبنى من جديد، يُخرّبها الأعداء لتحمل شعلة الجهاد وترفع علامات النصر، تذوق الدمار والخراب لتكتب فصلًا جديدًا من أروع فصول تاريخنا الإسلامي العريق، فهي بحق، حلب "أبوالأنبياء"، وعاصمة "سيف الدولة" وقاعدة "صلاح الدين".