ضاع الكثير من تراثنا العربي، ونُسب زورًا لغيره من الثقافات في معترك صراع الحضارات بين الشرق والغرب.
موضوعات مقترحة
لم يقتصر ذلك السطو على الجوانب العلمية مثل الطب، والرياضيات، والفلك فقط ، بل إن نظرة فاحصة للأعمال الأدبية الأوروبية تكشف أنها صورة كربونية لمؤلفات ورسائل عربية، فالكوميديا الآلهية لدانتى أليجرى "1321م" ، التي يشار إليها باعتبارها أعظم نص أدبي أنتجته أوروبا في القرون الوسطى، ما هي إلا مسودة لما كتبه الوزير والشاعر الأندلسي أبو عامر ابن شُهيد المتوفى عام 424هـ / 1034م " في رسالته الشهيرة "التوابع والزوابع".
تكرر الأمر مع قصص وروايات عالمية وجدت طريقها إلى القلوب على اختلاف الشرائح العمرية مثل "طرازان" و"ماوكلى..فتى الغابات"، تلك الشخصيات الكارتونية والسينمائية التي أحبها الصغار والكبار على السواء، في حين أن كليهما "طرزان" و"ماوكلى" أصلهما عربي، وتعاقب على كتابتهم ٤ من عظماء فلاسفة وأطباء الإسلام ، تحت اسم "حي بن يقظان".
في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كان الشرق الإسلامي قد بلغ أوج عظمته الحضارية، وفى أقصى الغرب الإيراني كان الشيخ الرئيس وأمير الأطباء ابن سينا المتوفى عام 427هـ /1037م" يمضى فترة سجنه في همدان نتيجة آرائه الفلسفية، لكنه أمضى العقوبة مُنهمكًا في كتابة رسالة فلسفية سماها "حي بن يقظان" تناقش علاقة الإنسان بالكون والدين وتدعو إلى استعمال التّفكُر والمكاشفة في الوصول إلى الخالق.
غير أن رواية "حي بن يقظان" وهى النسخة الأصلية لـ " طرازان" و"ماوكلى" قد اكتسبت شكلاً جديدًا حين قام الطبيب والفيلسوف الأندلسي أبو بكر بن طفيل" 581هـ/ 1185م" بإعادة صياغتها من جديد، كما أن معاصره شهاب الدين السهروردى " 578هـ / 1190م" قد أعاد بناءها تحت عنوان "الغربة الغريبة" ، فيما كان مكتشف الدورة الدموية الطبيب الأندلسي الشهير أبو الحسن علاء الدين بن النفيس"687هـ/ 1288م"، هو آخر من تناول تلك الرواية، حيث اسماها "فاضل بن ناطق" أو "الرسالة الكاملية" .
ورغم تعدد كُتاب "حي بن يقظان" بين أطباء وفلاسفة شهد لهم العالم بعبقريتهم الفذة، تبقى الرواية التي كتبها أبو بكر بن طُفيل أكمل وأروع تلك النسخ .
تدور قصة "حي بن يقظان" عن طفل أبصر النور ليجد نفسه وحيدا في جزيرة نائية، فقد كان خاله ملكًا شديد البطش والغيرة، وكانت له أخت ذات جمال باهر، منعها أخوها الملك من الزواج بعد ما لم يجد لها رجلاً يليق بها، ولكنها تزوجت سرًا من رجل اسمه يقظان،فحملت منه وأنجبت (حيًّا)، فلما خافت أن يفتضح أمرها وضعَتْه في تابوت، وخرجت به إلى ساحل البحر وقلبُها يحترق خوفًا عليه، ثم قذفَتْ به في اليمّ، حتى رست به الأمواج فى جزيرة "الوقواق".
وبعد تلك الحبكة الدرامية المستوحاة من قصة نبي الله موسى ـ عليه السلام ـ يسرد ابن طفيل كيف استطاع ذلك الطفل أن ينشأ دون أب يكفله أو أم ترعاه، حيث صادف وجود ظبية "غزالة" قد فقدت ولدها؛ فحنت عليه وأرضعته، وقامت برعايته، ودفعت عنه أذى الحيوانات، واصطحبته معها في مواطن الرعي.
ومنذ تلك اللحظة يمر"حي بن يقظان" بسبع مراحل للوصول إلى معرفة الكون وخالقه العظيم، أما الأولى فهي إرضاع الظبية لحي ورعايتها له حتى عمر سبع سنوات ، وما إن ماتت الظبية حتى شكل هذا حدثًا استثنائيًا في حياته ، لتبدأ المرحلة الثانية حيث قام حي بتشريح جسدها للتعرف على سبب الوفاة، وهنا تظهر العبقرية الطبية لابن طفيل مؤلف الرواية ، حيث استرسل في تشريح الجثة ما يشي بتمكنه من علم الطب ، وفى هذه المرحلة تكونت لدى "حي بن يقظان" الرغبة في المعرفة عن طريق الحواس.
أما المرحلة الثالثة فكانت اهتداء حي إلى استخدام العقل بصورة أكبر للتعاطي مع الطبيعة ومحاولة التعايش مع الحيوانات المختلفة، حيث اكتشف النار للدفء والطهي، وإبعاد الحيوانات المفترسة، فضلاً عن استخدامه لريش الطيور في صناعة زى يوارى جسده، وفى هذه المرحلة بنى بيتًا له يسكن فيه، كما أنه بدأ في تسخير الحيوانات وركوبها ليستعين بها على قضاء حوائجه.
أما المرحلة الرابعة فكانت اكتشافه لجميع الأجسام التي كانت موجودة حوله، فعرف الفرق بين الجسد والروح، واكتشف تشابه الكائنات في المادة واختلافها في الصور، فوصل بذلك أن كل صناعة لابد لها من صانع، وأن كل خلق لابد له من خالق، حيث انتقل فكرُه وتأمله من محيطه الأرضي إلى السماء والكون باتساعه وعظمته؛ أملًا منه في العثور على هذا الخالق العظيم .
بدأ حي المرحلة الخامسة فكانت في اكتشاف الفضاء، وكان ذلك الاكتشاف أقرب ما يكون لتدبر نبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ لحركة النجوم والكواكب، واختلافها في الشكل والظهور والوظيفة، واستنتج بعد كل هذا أن الأجسام السماوية والكون بحاجة إلى صانع، كبقية الأجسام الأرضية التي عرفها من قبل.
وعند بلوغه الخامسة والثلاثين من عمره، بدأ حي مرحلته السادسة، وهى الوصول إلى خالق الكون، حيث اختار طريق الصوفية وأهل المعرفة للوصول إلى الله من خلال التجرد من الطباع الشهوانية للحيوانات، والسمو بالروح من خلال تذكية الروح وتطهرها من الذنوب، فتشبه بالأجسام العلوية في السماء، فتارة يمضى سياحته طائفا حول الجزيرة،وتارة يدور حول نفسه في رقصات صوفية أشبه بـ"المولوية"، لينتهي به الأمر إلى نظريات ذوبان الجسد واتحاد الروح والكشف والمشاهدة للخالق العظيم.
لكن حياة "حي" تنقلب رأسًا على عقب حينما قرر شخصان أحدهما يدعى "أبسال" والآخر"سالمان" أن ينزلا بجزيرة ابن يقظان، وكان الشقيقان أبسال وسالمان يعتنقان إحدى الديانات السماوية، وحين التقيا بحي قاما بتعليمه اللغة، إذ كان لا يعرف غير أصوات الحيوان، وحينما حكى لهما قصته للوصول إلى خالق الكون من خلال الاكتشاف والفطرة، اتفق ذلك مع ما جاء به الدين.
وحين قرر حي أن يرحل عن جزيرته إلى الجزيرة التي جاء منها "أبسال" و"سالمان" ، واختلط بالناس، واكتشف ما بهم من شرور ومكائد وابتعاد عن طريقته التي وصل إليها في الحب الإلهي، قرر أن يعود إلى جزيرته مرة أخرى ليعبد الله على طريقته .
حين قرر الغرب أن ينسب لنفسه تلك الرواية العربية من خلال إعادة تدويرها كمغامرات قصصية للأطفال، قدموها بأسماء مختلفة مثل "ماوكلى" للكاتب البريطاني روديارد كيبلينج، الذي حاز على جائزة "نوبل" في الأدب عام 1907، وتدور أحداث الرواية عن فتى نشأ بين أسرة من الذئاب في غابات الهند، وتنتهي بعودته إلى جنسه من البشر.
في حين تدور قصة "طرازان" التي ألفها الكاتب الأمريكي إدجار رايس عن رضيع فقد والديه في إحدى جزر الهند، لتربيه "غوريلا" فقدت رضيعها ، وتحميه من الحيوانات المفترسة، حتى يلتقى في نهاية المطاف بحبيبته "جين" التي تنزل الجزيرة في رحلة استكشافية، وتصطحبه معها إلى لندن ليتزوجا هناك، لكنهما ضاقا بالحياة الصاخبة، وقررا أن يعودا مرة أخرى إلى "جزيرة طرازان".
لم يحافظ "كيبلينج" و"رايس" في روايتهما عن "ماوكلى" و"طرازان" على الصورة النقية للبطل الذي يعيش بفطرته الطيبة السليمة كما أظهرها فلاسفة المسلمين في رواية"حي بن يقظان"، بل قدماها في شكل يُظهر الهيمنة والسيادة والبطش للرجل الأبيض على سائر الأجناس البشرية الأخرى كزنوج إفريقيا السود والهنود الحُمر، حتى حين أرادا أن يعزفا على وتر الحب، جعلوه حبًا بشريًا بين "ماوكلى" والفتاه "ميشو"،أو بين "طرازان" و"جين"، بينما كان هدف "حي بن يقظان" الوصول إلى الحب الإلهي.
طرزان وماوكلى طرزان وماوكلى طرزان وماوكلى