إذا قدر لأحدهم أن يتلصص على حياة المخرج الأمريكي "سبايك جونز"، فقد يجده –مثلًا- في الصباح، وبعد أن يأخذ حمامه- وهو ما يزال أسفل الدش- يضغط على الخيالات المتشابهة في سيراميك الحائط، من أجل الولوج إلى خلوته السرية، لكن الباب السري فيما بين الحائط والفراغ لا ينفتح، وبدًلا من محاولته إعادة الضغط على البلاطات مرة أخرى؛ سيصفع جونز رأسه لأنه قد نسي الكود السري للدخول، وسيذكر نفسه بإعادة ترتيبه من جديد في المرة القادمة.
وعند خروجه من باب الحمام، وذلك إن كان محبًا لكرة القدم الأمريكية، سيتأهب لركل الكرة المصنوعة من الفراغ والمنصوبة على سنها لتسجيل أحد أعظم أهدافه، لكنه سرعان ما سيتراجع إذا أحس بأن الكرة يمكنها أن تحطم زجاجة نافذته، أما إذا كان محبًا للبيسبول، فسيخرج من الحمام عدوا، فيركض حول المائدة قبل أن يقفز لامسًا الخط ومحققًا نقطة لفريقه، وعندما يهنئ نفسه بالنصر سيكتشف أنه قد لوث ملابسه وجسده بطين الملعب فسيعود مرة أخرى لحمامه من أجل دش جديد لتنظيف نفسه!.
جائزة افضل فيلم في الحقيقة لا يمكن لستيف جونز إلا أن يكون عائشًا في الفانتازيا كي يصنع أفلامًا مثل تلك التي يقدمها -وليس فقط فيلمه الأخير "هير Her" من بطولة خواكين فونيكس وإيمي أدامز وسكارليت جوهانسن، والمرشح لخمس جوائز في مسابقة الأوسكار.
الخيال هو ابتداع لشيء من الذاكرة أو عن طريق التفكير، حتى وإن كان مجرد اختلاق لأحداث منتقاة من البيئة الواقعية، بينما الفانتازيا تتلخص في إدراج العناصر الخيالية داخل إطار متماسك ذاتيًا (متناسق بالداخل)، حيث يظل الإلهام النابع من الأساطير والفولكلور فكرة أساسية منسقة بداخل هذا الشكل، يمكن تحديد أي مكان لعنصر الخيال: فقد يكون مُخبأ، أو قد يتسرب إلى ما قد يبدو إطارًا لعالم حقيقي، كما يمكن أن ترسم الشخصيات في عالم باستخدام هذه العناصر، وهو ما فعله سبايك جونز بالضبط في فيلمه الجديد "هي Her"، ولكن كيف لفنان أن يصل لهذه الدرجة من الإيهام إلا إذا كان هو نفسه جزءا من هذا الإيهام، أو بشكل أدق هو الوهم نفسه.
تدور أحداث "Her" عن أديب وظيفته كتابة الرسائل الحميمة بين الأحبة وبعضهم أو بين الأهل وذويهم، وتعيش تلك الشخصية في عالم يبدو من تفاصيله إنه في منطقة ما من المستقبل، وترتبط حياته بشكل كبير بالآلات والتكنولوجيا، فيكون من الطبيعي أن يقع في حب آلة من تلك التي يعيش غارقًا بينها، ثم يكتشف أنه ليس وحده الذي يعاني هذه الحالة العاطفية، وأن العالم كله صار يعانيها مثله، ثم تتطور الأحداث حول هذه العلاقة.
يضع المخرج المشاهد بشكل مباشر في جوف هذا العالم الفانتازي، دون أي إشارة للزمن الذي تجري فيه الأحداث، ودون أية تفاصيل عن كيفية سير هذا العالم، فقط يعرض للمشاهد الحياة العادية لهذا الواقع المتخيل، فهو بذلك يمنع كل المؤثرات التوضيحية من كسر حاجز الإيهام بين ما هو متخيل وما هو معاش حقيقة، وكأن العالم هو ذلك العالم الذي تدور فيه أحداث الفيلم، ويعتمد جونز في رسم تفاصيل الصورة، على إحداثيات واقعية بالفعل، فنرى الملابس مزيجا بين تلك التي سادت في فترة الستينيات والسبعينيات والتسعينيات، ولا يجهد نفسه في خلق صورة متطورة لأساليب المعيشة؛ فالمنزل هو المنزل نفسه وكذلك المصعد هو المصعد نفسه، لكنه يجعل الحياة تسير في الآلة، فبطل الفيلم يكتب رسائله عن طريق محادثة الآلة، ثم يحدث هاتفه المحمول ليعرف أخباره الشخصية وأخبار العالم من حوله، حتى إنه يمارس الجنس الافتراضي مع خليلته الإلكترونية.
يمكننا أن نقول إن قصة الفيلم تمتلئ بالكثير من الإسقاطات على الحياة الآنية التي باتت شديدة الالتصاق بالواقع الافتراضي، خاصة بعد رواج فيسبوك وتويتر، وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي، لكنه في حالة "جونز" فإننا نتعرض للواقع الذي يعيشه "سبايك" نفسه، وليست فقط وجهة النظر التي يرى منها الواقع المعاش، فحالة العزلة التي يمر بها "تيودور –خواكين فونيكس-"بطل الفيلم، هي الحالة نفسها التي يمر بها أغلب البشر حاليًا، خاصة بعد أن باتت مواقع التواصل الاجتماعي منصة مميزة للتعبير عن أنفسهم، فإننا نجد بطل الفيلم والذي ظل أثيرًا لعلاقة زوجية فاشلة، سرعان ما يتحرر منها عقب ظهور التطبيق الإلكتروني الجديد لهاتفه الذكي"سمانثا –سكارليت جوهانسون-"، ثم تنشئ علاقة عاطفية فيما بينهما رغم أن الاتصال الوحيد بينهما يتم فقط عن طريق الصوت.
وتظل الأحداث عبر تصاعدها تشير إلى هذه الوحدة التي غلفت جميع البشر، وتتنقل حالة الحب والألفة التي بدأت مع تيودور لتعم جميع الشخصيات، ويظهر ذلك جليًا في الربع الأخير من الفيلم والذي يكتشف فيه البطل أن جارته وصديقته "إيمي –إيمي أدامز" صار لها خليلًا إلكترونيًا بعد أن هجرها زوجها، ثم يرى الناس في الشارع وقد صاروا كلهم يحادثون هواتفهم الذكية مثله!
جوهر توافق العلاقات العاطفية التي يخلقها الفيلم، ينبني في الأساس على تفهم تلك العلاقة القائمة في واقع افتراضي، ولابد لها إذا أرادت الاستمرار أن تحترم ذلك المبدأ، لذا فإن أولى خطوات الفشل في تلك العلاقة تأتي من محاولة سمانثا لتجسيد ذلك الواقع الافتراضي؛ وذلك حين تتخيل أن مقابلة تيودور لزوجته ستجعله يحن إلى علاقة حقيقية، فتحاول أن تقنع الأول بإقامة علاقة حميمة مع امرأة حقيقة متخيلًا أنها هي –سمانثا- وقد تجسدت في تلك المرأة، ويمثل فشل ذلك الأمر أولى الشروخ في جسد علاقتهم العاطفية.
بينما تكون الصدمة الكبرى والتي تنهي علاقتهم من أساسها، في اكتشاف تيودور أن سمانثا ذلك التطبيق الالكتروني تعرف أكثر من 600 شخص غيره، وتحبهم ويبادلونها الحب نفسه كذلك، فالأنانية التي هي جزء من الشخصية الإنسانية لا يمكنها أن تتعامل مع التكوين الطبيعي للتطبيق الإلكتروني والذي هو مشاع لجميع البشر، وهي محاولة أخرى لإصباغ مشاعر واقعية على علاقة افتراضية بالأساس!
خط آخر فلسفي يمتد عبر خيط الأحداث يدور حول فكرة الميلاد والتطور، فالمخلوق من العدم هو الوحيد القادر على التطور، بينما الشيء المبتكر يصير أقرب إلى العبد منه إلى الحر بالنسبة إلى مبتكره، وهنا يقلب جونز الأوضاع؛ فالآلة المبتكرة هي التي تتطور إلى أن تزدري العالم الإنساني البائس وتقرر أن تغادره، بينما الإنسان المتطور يظل حبيس عبودية ما ابتكره هو بالأساس وذلك لرفضه التطور.
رغم ذلك لا يترك الفيلم لتلك الصورة القاتمة أن تسود، إذ يبشر في نهايته بعلاقة إنسانية حقيقة قد تنشئ بين تيودور وجارته إيمي.
من ناحية أخرى برع جميع الممثلين في أداء أدوارهم دون استثناء، لكن التفوق الذي أظهرته سكارليت جوهانسون من خلال أدائها الصوتي طوال الفيلم كان مميزًا وملفتًا للغاية، وهو ما يضع العديد من علامات الاستفهام حول عدم ترشيح أي من الممثلين إلى أي من الجوائز في مسابقة الأوسكار. كذلك استطاعت الصورة البصرية والسمعية التي صدرها الفيلم، نقل الحالة الخيالية والعاطفية للأحداث، كما صاغها المخرج.
وفي النهاية فإن الفيلم في مجمله يعد درسًا أو نصيحة-قبل أن يكون قطعة فنية خالصة- لكل مبدع، عن ماهية صناعة الفانتازيا؛ نصيحة مفادها أن الخيال ليس في رسم الشجرة المزروعة في الجنة، بل هو استئناس الظل جوار جذعها، وفي نثر البذر بعد أكل ثمرات التفاح!.