تأخرتم كثيرًا عن التحديق في الجهات التي حملها الفلسطيني المبدع حسن حميد.
موضوعات مقترحة
جهاتكم تلك: بصُرّة اللجوء التي ناءت بها ظهور كسرتها آلام النكبة، وبدرب الآلام التي وصلت تزاحم ويلات الأرواح في المخيم على بوابة غدها المفقود برحمة حلم العودة إلى الوطن المفقود، وبما بينهما من الصعود إلى أعلى الصلبان كي يُرى الجسد الفلسطينيّ مرفوعاً على فكاهة المطاردات في مدن تنقلب عليه كلما اتسع به حلمه، وتفقّه مرتكبي المجازر بتأويل صرخته التي بقيت في الأرجاء، وتلوّث الأشياء حوله ببلاغة الموت الذي شاءوه أشبه بسهم طائش يقتصّ أثره في طريق العودة إلى بيته القديم هناك في فلسطين، الذي لم يعد بيته.
الجهات ذاتها التي لايزال أبطالها التراجيديون، بانكساراتهم الطارئة كقطرة ماء في ريش القطا وآمالهم الطويلة كأغنية رعوية تندى بأنفاسهم اللاهثة في ظل أيامهم، يتنفسون في وجوهكم. هذي الجهات التي أرّخت لأسطورة الفلسطيني، بزمانه ومكانه المقدسيين، بعوالم درامية ملحمية، لتدخله مدخل صدق مكتبة التراجيديات الإنسانية الكبرى، بجمالية الحاذق في خلق الحياة وسط الدمار والقتل المعدّ له ببراعة قاتله الفذّ، والانتصار لها بالحب الكبير لذاكرته وأشيائه وغده الملتبس على الأبدية.
تأخرتم كثيراً جداً عن رؤية ما رأى حسن حميد.
المخيم الذي صار بطلاً في قصّه وروايته. كما لو أنه ينصرف إلى الساعة المقبلة من وقته الطويل العاجز، كطفل يفكر على مقعد الدراسة برائحة خبز الصاج الذي تعده أمه لأبيه الفدائي الذي وعد أنه سيعود، ولعله يأتي في أثر الدقائق التي يحثّها ليصل البيت الذي كان قبل قليل خيمة، وعما قليل سيصبح متحفاً، تماماً كما المخيم كله، حين يعود أهلهم إلى ديارهم، هناك في فلسطين التي تنتظر بكامل فتنتها.
تأخرتم كثيراً عن الإقامة مع حسن حميد في الوطن المقدّس الذي خلقه باللغة.
"مدينة الله" التي صوّرها في روايته شخصية حفرت ظلها في مرايا التاريخ.
القدس تلك التي هبطت من السماء إلينا، وخصّها الله بنا، يجعل من نكهة مقاهيها وملامح شوارعها، وأصوات الباعة في أسواقها، ومكوث سكانها الأصليين في باحة الأبدية، شهادة على فلسطينيتها أولاً، فيما يفسد قاتلو الأنبياء وراجمو المرسلين برطناتهم على أحجارها الهواء النظيف الطازج الهابط للتو من السماء من أجلنا فيها.
تأخرتم كثيراً أيضاً عن اكتشاف آماد رؤيا العصا العمياء التي يهش بها حسن حميد عهدنا هذا، الغائب في حضرة التاريخ، ليكشف عن هشاشة الزمن الذي اقتلع الفلسطيني من مكانه، وقباحة صانعيه وهم ينحتون على حجارته حيطان مبكاهم بحبر مقتنصي الأكاذيب، ونصول أسلحة عمياء تحرس أجساد جنود عمياء.
" جسر بنات يعقوب " الذي يستنطق الأبدية لايزال على سِنة ٍ أو نومٍ مسّ كسرة من الزمن الماضي على عجل ليدخل في تاريخه، فمرّ العابر بنزعة الجشع الفتّاكِ، وتفقّهِ شهوة الغنى، ليفصل زمن المكانين المقيمين على ضفتيه، ويجبر البشر الذين يصلون أرحامهم ومصائرهم فيهما على دفع ضريبة التواصل المغدق في التاريخ المشترك. لا تتوقف الأبدية، لكن الزمن ينقلب على ظهره، ويتقلب على آلام الأراضي المقدسة تلك التي لاتزال أحجارها وأشجارها وملابس كائناتها حين تتحدث تنطق بغير ما يرطن به الغرباء، يعقوب الذي يموت لتبقى بناته يعثن بغيّهن الخدّاع الفساد في الزمان والمكان، وينكأنَ بعصا الوصايا القديمة التي أورثها يعقوب آلام سكانهما الأصليين. لم يعد العابر طارئاً يا سادة، فانتبهوا لما يطرأ في مكوثه.
تأخرتم كثيراً عن العثور على رائحة عشب الطريق إلى البيت الذي ما يزال ينتظر في حلم عودتكم، تلك التي يفركها حسن حميد بأنفاس بطله التراجيدي.
"الوناس عطيّة" الذي يكتب روايته الخصوصية بخطى الروح الباحثة في متاهتها لهاثاً تراجيدياً وراء أثر أحدٍ يبحث بدوره عن ضالته التي تتوه هي الأخرى في رحلة البحث عن أحدٍ آخر لن يعثر على خبط جسده في أرض شتاتٍ هي أشبه بمياه متحركة تمحو الظلال والأصداء، فيما تتقنع الأجساد بأوصاف الماضي الثابت التي تفرك الوقت في حاضرها، وهي تلوِّبُ في جغرافيا / أشبه بأمكنتنا التي قد نعثر عليها في سرديتتا، تتشابه علينا في مرايا التاريخ / تاريخنا المتخيّل والمفقود معاً. لكن مراوغات الزمان والمكان اللذين كلما يتحدّان يوشكان أن يضيعا في جهات البحث تلك، فلا يتعثر جسد بجسد، ولا يعثر أحد على أحد. وحده الوناس عطية يعثر على ضالته حين تقوده روحه جهة الوطن المفقود / فلسطين التي أكل من زعترِها فتعلقت بها أبداً.
تأخرتم كثيراً عن تلاوة وصايا القصب في رواية حسن حميد.
"أنين القصب" المحمول على ثالوث الحب والمقدس والتضحية في رواية البطل التراجيدي المفتوحة على زمن يتحرك بإيقاعات الذاكرة العصيّة على النسيان التي تفرك بأصابعها تفاصيل المكان بحنكة الزمان للولوج إلى مستقبل تتجسد فيه الرواية الفلسطينية وهي تمحو السردية العدوة القائمة على ثالوث الحقد المقدس والمحو والقتل.
ملحمية الثبات بتراجيديا الذات المؤصلة على أقانيم الانتصار بحب الحياة على الموت، والقبض على المقدس في أسرار الروح بحثاً عن خلودها في أرواح الأجيال المطلة على أزمان أخرى متعددة في مواجهة المحو بالدنس القادم بخطى غريبة لغريب يأتي بزمن طارئ في المكان الأبدِيّ المقدّس، والصعود إلى أعلى صلبان التضحية دفاعاً عن قداسة الذات التي كثفت في ذاتها المكان والزمان المقدّسين نقيضاً لخديعة الموت التي هيأها قاتل قادم بسردية الخارج من أسفاره القديمة أعمى بمهنة القتل المقدس التي ورثها عن ربّ جند العهد القديم.
تأخرتم كثيراً عن مصاحبة آلام ذاكرة حسن حميد التي تروي سيرة السلالة، لتذكُر، وتذكّر.
"السواد أو الخروج من كراد البقارة" الذي لا يزال يتنفس في وجوهنا في مرايانا التي كلحت برائحة المجازر ولسع أثلام اللجوء، وهجرة الذات التي اقتلعت من مكانها وزمانها الأصليين إلى تغريبة أمكنة وأزمنة لا تشبهها إلا لحظة تروي قبضها على جمرة السؤال والهوية. السواد الذي اتشحت به عيوننا وهي تحدّق في صور الشهداء على جدران الذاكرة. الصور ذاتها التي حتّها زمن ذبلت خطاه على تجاعيد وجوهنا في انتظار درب عودتنا.
تأخرتم كثيراً عن مخاطبة المقدّس /السماويّ باللغة ذاته التي كلمه حسن حميد بها.
" النهر.. بقمصان الشتاء " الذي يؤرخ بماء الحياة ذاتها لتآخي المسجد والدير، الشيخ والرهبان في تكريس الهوية ودرء المصير من موتٍ أعمى يزور الجسد / المكان و الروح / الزمان بمهنته العبثية المقدسة / القتل والمحو والإلغاء. تمر عهود عجاف من العثماني حتى الإنكليزي وما تلاهما دون أن تحفر أثراً لعبورها على ظلال الهلال أو الصليب التي تتوزع في الأنحاء والضمائر كالأسماء والأوصاف صاحبة الجلالة في الذاكرة الجمعية. بما يشبه سيرة ذاتية للقرى والمدن والأشجار والأحجار والكائنات والمخلوقات التي تنطق بلغة التاريخ ليكتب آلامها وأحلامها التي تبقى تدلّ عليها، فينا يتسنى لحلم عودة البطل التراجيدي الخارج كالفينيق من تحت الرماد أن يحفر وصيته على حجر الرؤيا بأن يحمل أبناؤه رفاته فيما لو قضى في الشتات إلى قريته في فلسطين حين تعود. حتى بلاغة المنطوق في الرؤيا تصبح لوحاً محفوظاً لكتاب الذاكرة الجمعية الماضية إلى غدها بإيقاع الحب والعبادة والتضحية والخطيئة والمغفرة والمعرفة والعصيان... محمولاً على النشيد الفلسطيني الطويل صعداً إلى الإنساني جميعاً.
النشيد ذاته، المأوّل بفكاهة القدر وحنكة المصير وبلاغة الهوية، في فنه القصصي والروائي المتعدد والمختلف والمتنوع والمتميز في آن، يؤرخ للرواية الفلسطينية نقيضاً للسرديات الإسرائيلية، ويقدمها قضية جمالية إنسانية في مواجهة قبح العدو ودمويته.. فلا تخطئوا الوصف.
تأخرتم كثيراً في تكريم حسن حميد.. المبدع الخلاق، والعملاق، صاحب الثلاثية "جسر بنات يعقوب" و"أنين القصب" و"النهر.. بقمصان الشتاء"، الحائز على جوائز عربية ودولية لم يسبقه إليها أحد من الكتاب الفلسطينيين، والحاصد لأهم جوائز العرب - جائزة العملاق الخالد نجيب محفوظ، صاحب الثلاثية "بين القصرين"، و"قصر الشوق" و"السكرية".
------
عبد الله عيسى
(كاتب وشاعر فلسطيني)