"بنات الكرخ" هو الديوان الثاني للشاعرة المصرية شيرين العدوي، الحاصلة على جائزة السفير السعودى حسن عبد الله القرشي لهذا العام 2017. ويتكون العنوان من اسمين، مضاف أحدهما إلى الآخر، الاسم الأول جمع هو "بنات"، والاسم الثانى مفرد وهو "الكرخ".
موضوعات مقترحة
والاسم الأول يدل على كائنات إنسانية حية تنتمي للعنصر النسائي، وهو بنات بما تدل عليه من بكارة ونشوة عارمة بالحياة وشباب وصحة وجمال، وهذا الاسم الجمع لا نعرف على وجه التحديد مفرداته، من حيث اسم كل بنت من هؤلاء البنات، ولا لونها أو ملامحها أو عائلتها أو عمرها بالضبط أو خلفيتها النفسية والتاريخية والمعرفية أو رؤيتها للعالم أو قناعاتها أوملابسها أو علاقاتها مع باقى هؤلاء البنات، أو حياتها العاطفية.
ويسهم عدم التحديد هذا في ترك المجال لخيال المتلقي كي يمعن هو في تشكيل الصورة الذهنية عن هؤلاء البنات. أما الاسم الثاني الذي جاء في موقع المضاف إليه فهو الكرخ، وهى سوق بناها الخليفة العباسي الثاني أبو جعفر المنصور خارج بغداد ليسكنها العامة. ومن هنا فإن علاقة الإضافة بين الكلمتين تدمج دلالتهما وترسل للمتلقي معنى مدمجًا منهما، فالاسم الثاني يدل على مكان، وهذا المكان خارج دائرة المركز/بغداد، وهو مبني من قبل الخليفة ليسكنه العامة/المهمشون.
وهنا يمنح الإنسان المتمثل في البنات المكان المتمثل في الكرخ أنفاسه ورقته وحيويته ويسم المكان في الوقت نفسه الإنسان بميسمه. ويطل الجانب التاريخي في هذا العنوان وينسحب على الحاضر، مما يجعل المتلقي في اللحظة التاريخية الراهنة يفتح صدره لعبير القرون. فتتعانق أنفاس الماضي الألق لبغداد مع أنفاس الحاضر التعيس الآن في دخولها إلى صدر المتلقي.
وتفتح هذه البنية التركيبية للعنوان باب التأويل لدى المتلقي كي يسهم ببصمته في توقع البنية المحذوفة التي تكمل الدلالة المرضية لديه. فإذا غادر المتلقي العنوان إلى متن الديوان نفسه فسيجد مقدمة طويلة بقلم الدكتور جمال مقابلة، وهو أستاذ بقسم اللغة العربية وآدابها بالجامعة الهاشمية الأردنية تبدأ من ص7 وتنتهى ص39. وربما كان وضع مقدمة طويلة في بداية هذا الديوان فيه نوع من المصادرة على عملية التلقي بالنسبة للقارئ، أو على الأقل نوع من توجيه قراءته، فيدخل عالم الديوان وقد تشيع برأي نقدي حوله، وعلى القارئ الذي يحب الاستقلال بالرأى أن يجاهد ما تسرب إليه حوله قبل قراءته.
وهذا يدل على الرضا النفسى بهذه المقدمة من قبل الذات الشاعرة واعتبارها صالحة كي تكون مدخلًا مرضيًا لقراءة إبداعها. وبالنسبة لي فقد كنت أفضل عدم وجود مقدمة نقدية أصلًا أو على الأقل وضع هذه المقدمة في آخر الديوان حتى يكون تفاعل المتلقي مع إبداع الذات الشاعرة أكثر حرية.
ويتكون الديوان من عشر قصائد بالإضافة إلى قصيدة طويلة أخيرة بعنوان "ومضات"، والتي تتكون من خمس وعشرين ومضة، وكل ومضة لها ترقيمها الرقمي. ويستغرق الديوان بالمقدمة 112 صفحة، وهو ينتمي لشعر التفعيلة، ويستخدم البحور الصافية وإن كان قليلًا ما يمزج بين بحرين من البحور الصافية في القصيدة الواحدة.
ومعظم القصائد متوازنة الطول، فلا تغرق في الطول ولا تغرق في القصر، وهي قصائد مليئة بالسراديب، خصوصًا الاستدعاءات التراثية شديدة التنوع، ولكنها في معظمها مرتبطة بالوجدان العربي بسبب انتمائها لمنطقتنا، وقربها الدائم في نفوسنا بسبب قداستها. فظهرت استدعاءات كثيرة لكلمات وجمل قرآنية، كما ظهر نشيد الإنشاد كخلفية تراثية لقصيدة بنات الكرخ 1، وقصيدة بنات الكرخ 2.
وقد كانت هناك هيمنة للضمير الأول أنا والضمير الثاني أنت على قصائد هذا الديوان. مما سجل حضورًا واضحًا لصوت الأنثى/الحبيبة وصوت الذكر الحبيب من خلال المراوحة بين هذين الضميرين.
وعلى الرغم من انتماء قصائد هذا الديوان لشعر التفعيلة، وهو أقل من الناحية الموسيقية من الشعر العمودي، فإن الشاعرة نتيجة تركيزها على ترديد حرف معين وتكثيف هذا الترديد قد تتفوق على البنية الموسيقية للشعر العمودي نفسه. تقول في قصيدة قمع الحرير التي سجلت ترديدًا حرفيًا واضحًا خصوصًا على مستوى قوافيها التي تتردد على مساحة صغيرة.
تقول فى قصيدتها "قمع الحرير":
من كبلك
تكبيلك الممتد كان تحررك
ففي سطرين قصيرين نجد مجموعة من الحروف تسجل نسبة تردد عالية، فحرف الكاف يأخذ نصيبًا كبيرًا من الترديد، حيث نراه يتردد ست مرات، وهي نسبة كبيرة في سطرين قصيرين، وكان لهذا الترديد لحرف الكاف دور كبير في إشاعة نغم موسيقي مكثف، وجاء تسكينه في نهاية كل سطر ليسجل وقفة قلقة تسهم في إنتاج الدلالة. كما أن ترديده نهض بعملية الاستحضار الكبير للمحاطب، وهو هنا ينتمي لعنصر الرجولة في مقابل صوت الذات الساردة الذي ينتمى لعنصر الأنوثة مما يشيع جوًا عاطفيًا لا يخطئه الحس.
كما سجل حرف الباء نسبة تردد واضحة هو وحرف الميم، حيث تكرر كل منهما ثلاث مرات في هذين السطرين الصغيرين، وقد جاء حرف الباء في السطر الأول مضعفًا، وظهر في السطر الثاني، ويسهم حرف الباء بانفجاريته في ضخ دلالة تفجر الموقف. كما تكرر حرف التاء وهو حرف انفجاري أيضًا ثلاث مرات وقعت كلها في السطر الثاني، مما أعطى تجاوبًا موسيقيًا مع الحروف المكررة. كما تكرر حرف اللام أيضًا ثلاث مرات في هذين السطرين. متجاوبًا بترديده هذا مع بقية الحروف. وتكررت حروف اللين ثلاث مرات، فقد تكرر منها حرف الألف الذي تكرر مرتين وحرف الياء الذي جاء مرة واحدة. في حين تكرر حرف النون مرتين، فقد جاء مرة في السطر الأول وجاء مرة ثانية في السطر الثاني.
ومن هنا تبدو الحرفية بما تحمله من طاقة إيقاعية واضحة نسقًا معتمدًا في هذا الديوان "بنات الكرخ" للشاعرة المصرية شيرين العدوي. وتبدو الاستعارة المهيمنة على قصائد هذا الديوان هي استعارة الرحلة، فينظر للخلق وكأنه رحلة على نحو ما نجد في قصيدة قمع الحرير، حيث تقول:
ستظل تحمل ما تحملت
انخفضت أو ارتفعت
إلى جبال من معان للكلام
إذ أين كان الطور ينتظر الضياء
من أي دود الأرض أخرجت الحرير
وكيف أسكنت الشرانق لحظة البعث
انكشفت تكشف السكر الذى خط الجناح
فصار خطًا جنب جرح جنب قتل
ثم من قمع الحرير خرجت
تبدأ رحلة كبرى تصير معقدًا كفراشة
سهلًا كماء في فلك
ما أسكرك
وهنا تبدو ثيمة الرحلة بوضوح، حيث ينظر للكائن الحي بصفته قد خطت على جبينه الرحلة، وهذه الرحلة تبدو أنها رحلة لا تعرف الهدوء أو الاستقرار، وكلما ظن أنها انتهت تبدأ من جديد من خلال عملية ولادة من الأنقاض، فلا يوجد موت نهائي وإنما الموت بداية لرحلة بعث أخرى. وبذا تبدو عملية الخلق باعتبارها رحلة كبرى. وتبدو الخلفية الفلسفية والمعرفية ذات وضوح بارز من خلال المقطع السابق، حيث تبدو التجليات العرفانية لتشكل الخلق، وظهور قدرة الخالق من خلال خلقه.
كما يظهر الحب نفسه باعتباره رحلة. وهنا تظهر قصيدة بنات الكرخ 1 وقصيدة بنات الكرخ 2 ليظهر من خلالهما اعتبار الحب رحلة. حيث نجد في بنات الكرخ 1 صوت الحبيبة الباحثة عن حبيبها ، فقد كان الصوت في بنات الكرخ 1 منتميًا للأنثى المحبة التي تبحث عن حبيبها، وتسأل عنه في الطرقات ولا تجده. وهنا يبدو التداخل مع عشتار في بحثها الدائب عن تموز، ويبدو التداخل أيضًا مع إيزيس في بحثها الدائب عن أوزوريس. وهذه أساطير من بيئتنا. وهي أساطير صنعت نموذجًا أصليًا للبحث عن الحبيب. وجسدت رمز الرحلة التي تنهض بها المرأة من أجل العودة بحبيبها الغائب من ظلمات الموت المتراكمة.
والحقيقة أن هذا الديوان في تعامله مع الأسطورة يفكر بها فتبدو الأسطورة مجدولة في نسيج القصيدة وتكون خلفية تظهر من خلال نقاب شفيف للعالمين بها. وما أكثرهم لأنها أساطير ونماذج أصلية تكونت في منطقتنا وعاش بها إنسان هذه المنطقة على مر العصور، سواءً بوعي أم بغير وعي. أما في قصيدة بنات الكرخ 2 فإن الصوت فيها ينتمي لمحب ذكر يتجاوب صوته مع صوت حبيبته في بنات الكرخ 1 وبذا يحدث اكتمال الأسطورة. عن طريق التجاوب بين الصوتين العاشقين.
وقد جاء الصوت الأنثوي أولًا كي يتواءم مع الأسطورة، حيث بدت الأنثى مفجوعة بغياب حبيبها، وهي تأخذ المبادرة في الفعل بالبحث عن حبيبها الغائب. كما يظهر الموت نفسه بصفته رحلة، ويتبدى ذلك من خلال قصيدتها "بلورة الرحلة"، تقول:
يا أيها الملك الموكل بالحياة ارفق بنا
أرجوك حلل وردتي من هذه الدنيا
لآتي واحد فردًا هناك
فالذات الشاعرة في غمرة الإحساس الطاغي بوطأة المعاناة في هذه الحياة التي تجثم على صدرها بلا رحمة، تطلب من ملاك الموت الموكل بنزع حياتها أن يحلل وردة الروح من سجنها، حتى تلاقي الرحمن فردًا.
وقد ظهرت ثيمة الرحلة بوضوح أيضًا في قصيدة "بلورة الرحلة" حيث تم تكريس الموت بصفته رحلة من خلال الاقتباس من كتاب الموتى.
تقول:
يا أيها الملك الموكل
إنني أتلو تعاويذ النجاة
أتلو تعاويذ المياه
افتح سمائى أيها المحبوب حابي
افتح لي الأبواب هيا
من نسج أحلام التعاويذ العتيقة
قد أتيت افتح إليا
ولتعطنى خبزًا وكعكا
أعطني لحمًا طريًا
هيا أنوبيس افتحي
للروح بابا افتحي
يا أيها الجميز أرسل لي الهواء
والماء أرسله إلي
ولا تبخل الذات الشاعرة بالإشارة إلى مصدر هذا الاقتباس الذي اقتبسته، حيث تشير في الهامش بقولها "تعويذة الماء من كتاب الموتى". ومن المعروف أن كتاب الموتى ينتمي إلى الحضارة الفرعونية القديمة، وهي أول حضارة معروفة اهتدت إلى فكرة وجود العالم الآخر، وفكرة الثواب والعقاب على أعمال الإنسان في حياته الدنيا.
وهنا يسهم التردد الصوتي لتعويذة الماء الفرعونية في اختصار المسافة الزمنية الكبيرة التي تفصلنا عن إنتاج هذه التعويذة، وكأن الذات الشاعرة قد قطعت رحلتها عبر الأزمنة في طريقها للموت. ويبدو هذا الاقتباس منسجمًا من الناحية الدلالية مع دلالة القصيدة العامة التي تبلور الموت بصفته رحلة تقطعها الروح إلى العالم الآخر. وقد تسربت ملامح الحس المأساوي عبر ثيمة الرحلة المهيمنة على هذا الديوان، فبدا الحس المأساوي بوضوح في هذه القصائد، خصوصًا قصيدتها "بلورة الرحلة" التي يبدو هذا الحس المأساوي بكثافة عالية فيها، حيث تصور هذه القصيدة رحلة الذات الشاعرة من الحياة إلى الموت، كما لا يعدم القارئ هذا الحس المأساوي في بعض مقاطع قصيدتها "ومضات".
فتستقطر الذات الشاعرة هذا الحس المأساوي من خلال ما يتسرب في البنية الخاصة بواقعنا الاجتماعي، وما يسوده من غبن بين حيث ينقسم الواقع الاجتماعي إلى قسمين: قسم يأتي أولًا متمثلًا في الفقراء، وقسم يأتي ثانيًا متمثلًا في الأغنياء، وبالطبع فإن الفقراء يعملون في حين يجني الأغنياء حصاد ما يصنعه هؤلاء الفقراء.
وهذا التصور يتراسل مع صور كثيرة سائدة في الحس الشعبي والأدبي، حيث يبدو الفقير مظلومًا دائمًا في حين يبدو الغني سارقًا دائمًا.
تقول في الومضة التي جعلت لها رقم ـ 12 ـ من قصيدتها الطويلة "ومضات":
للفقراء صناعتهم إتقان الأحلام
وصيد الغد من بحر الدمع
وللأغنياء
سرقة ما صنع الفقراء
وحلب البقرات السبع
ومنذ البداية نجد لام الملكية مسندة للفقراء مما يجعل تصور المتلقي متجهًا ناحية مكسب ما سيحوزه هؤلاء الفقراء، أو ستمنحه الذات الشاعرة لهم، ولكن هذا المكسب لا يلبث أن يكشف عن نفسه عبر عملية صيد للوهم في غد مشرق، ونجد كلمة صناعة التي تستحضر عالمًا ماديًا قادرًا على عملية تحويل للمادة الخام إلى منتج مختلف يملأ الواقع بالسعادة والغنى نجد هذه الكلمة تخلو من مضمونها حينما تأتى مع إتقان الأحلام، فتبعد عن نبض العالم الواقعي، وتذهب إلى عالم من الأحلام غير المتحققة. وهنا كان من الطبيعي أن يأتي بحر الدمع في نهاية الجملة الخاصة بالفقراء، لتكتسب معاناتهم حسها المأساوي البين.
في حين تأتى الجملة الخاصة بالأغنياء لتقف في موازاة الجملة الخاصة بالفقراء. فقد بدأت جملتهم بلام الملكية أيضًا، ولكنها هنا تختلف عن ملكية الفقراء لأنها ملكية في عالم الواقع المتحقق. حيث يسرقون ما تصنعه أيادى الفقراء، ويقومون بحلب البقرات السبع، في إشارة واضحة إلى رؤية ملك مصر التي فسرها يوسف الصديق، حيث رأى الملك سبع بقرات ثمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، وكان تفسير يوسف الصديق لهذه الرؤية التي احتار في تفسيرها الجميع بأن هناك سبع سنين مليئة بموفور الخير وسبع سنين يابسة تلتهم خيرات السنوات السبع السابقة.
وهنا في هذا المقطع نجد الأغنياء هم من يحلبون البقرات السبع، ويستمتعون بخيرات هذا البلد الكريم في مقابل الفقراء الذين يعملون ولا يكسبون. وهنا نجد حس الذات الشاعرة في التشكيل الكتابي للديوان واضحًا، فقد جعلت كلمة الأغنياء تستأثر وحدها بالسطر الشعري، وجعلتها تقع في المنتصف، وهذا يسهم في ضخ دلالة الاستئثار التام لدى هؤلاء الأغنياء بكل شيء حتى بالسطر الشعري نفسه.
كما تقول في الومضة التي جعلت لها رقم ـ 14ـ من قصيدتها "ومضات":
أعدد ما يتساقط من ورق التوت
واحدة واحدة
أموت سدى
قبل أن أحصي الآن
أعداد أصنامنا الساقطة
تكتسب ورقة التوت دلالة خاصة من خلال ماهو سائد في الوجدان عن سيدنا آدم وزوجه حواء حينما أزلهما الشيطان وأكلا من الشجرة المحرمة في الجنة، فبدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليها من ورق الجنة. حيث يقال إن ورق التوت كان ينهض بدور واضح في ستر عوراتهما. ومن هنا فإن لورق التوت دوره في ستر العورات، وسقوطه يعني انكشاف المستور وظهور القبح، كما يرمز للسقوط.
وإذا كان خيال المتلقى يذهب إلى أن ورق التوت يتساقط عن الذات الشاعرة فإن تساقط الأصنام جعل من ورق التوت يسقط عن الشخصيات التي وصلت إلى درجة الأصنام في حياتنا، وبعد تقديسنا لها سقط ورق التوت عنها فظهر قبحها وظهرت عوراتها. وبذا يبدو الحس المأساوي بوضوح من خلال رصد لبعض عمليات الانهيارات الكبرى في حياتنا المعاصرة. وبذا يبدو هذا الديوان "بنات الكرخ" للشاعرة المصرية شيرين العدوي محملًا بحس الذات الشاعرة الذي يتراسل مع النبض الاجتماعي العام، وما يتردد في جنبات هذا النبض الاجتماعي العام من أصداء تاريخية وميثولوجية. وقد ترك هذا الحس بصمته الواضحة على الاستعارة المهيمنة على قصائد الديوان، أقصد استعارة الرحلة.