هل أستاذ الجامعة مجبر على عمله؟
موضوعات مقترحة
قد تضطرنا الظروف للعمل في وظائف متعددة لا يقلل من قيمتنا أن نعمل بها ولا يقلل من شأنها أن نتجاوزها إلى غيرها، قد تضطرنا ظروف البحث عن الرزق أو البطالة أو تنمية مواردنا إلى قبول أعمال إضافية لزيادة الدخل أو لتمرير وقت الفراغ، أعمال نسعى إليها حتى وإن لم نمتلك ما يكفي من الخبرات للقيام بها.
قائمة طويلة من الأعمال بداية من المدير وحتى الغفير مرورا بالمهندس والطبيب والمعلم في التعليم قبل الجامعي، هي أعمال قد نستطيع القيام بها بعد اكتساب خبرات أو معرفة أسرارها لكننا لا نستطيع قبول الفكرة ذاتها لأستاذ الجامعة (ينسحب الأمر على كل العاملين بمجال التربية والتعليم).
أستاذ الجامعة (منطقيا) خلافا لكل ذلك لا يؤدي عمله في وقت فراغه من أعمال أخرى ولا يجب أن يزاحم وقته بأعمال أخرى بعيدا عن مجاله قد يمارس هوايات ما غير أنها تتعلق إلى حد كبير بمجال تخصصه.
إن شروطا تفرضها طبيعة العمل الجامعي تختل موازين القوى حال اختلالها، تلك الموازين الممثلة في الأجيال التي من المفترض أن تكون باحثة عن العلم، والأستاذ بوصفه – منطقيا – مايسترو قيادة فريق / فرق من الأجيال الصاعدة التي تمثل فريقا يعزف لحنه وعصره الخاصين، والمجتمع الذي يجني ثمار العلاقة بين المايسترو ومجموعة العازفين والنغمة النشاز إن لم تبدأ من المايسترو فإنه مسؤول عنها وعن ضبط الإيقاع، إيقاع العصر بكامله، فعندما يقصر الأستاذ، وعندما يتخلى عن موقعه، ويترك عصا المايسترو جانبا يعزف كل واحد لحنه النشاز ، ذلك الذي نعيشه ونتعود عليه حتى صار هو الأصل في التعبير عن واقع لم يجبر فيه الأستاذ على العمل بالبحث العلمي لكنه يعمل دائما بقوانين الإجبار ، يعيش عيشة المجبر المتأفف الذي يؤدي عمله مكرها ومن ثم ينعكس على أجيال من المتعلمين.
معظم الأعمال قد تنتهي علاقة العاملين بها مؤقتا فور خروجهم من مؤسساتهم، لكن أستاذ الجامعة هو في حالة عمل دائم، وفي حالة تعلم دائم، وفي حالة بحث دائم، ربما لا يتقبل البعض فكرة أن إنسانا ما وظيفته البحث العلمي، أو أن البحث العلمي يسم صاحبه بالانضباط والدقة والاجتهاد في اكتساب المهارات وتطوير الأداء لكنها الحقائق التي لا مجال مطلقا للتخلي عنها.
إذا كانت طبيعة اللحظة التاريخية المعيشة قد جعلت من كل الأعمال مجالا للتطوير والتقدم فإن من الأولى لأستاذ الجامعة أن يكون عمله في مقدمة هذه الأعمال، فليس من المنطقي أو هو خارج نطاق التصور ألا يجيد أستاذ الجامعة في الألفية الثالثة مهارات الكمبيوتر مثلا أو على الأقل الحد الأدنى مما يتطلبه عمله وما يمكن لتطبيقات الكمبيوتر القيام به ، وليس من المنطقي أن يسبق الطلاب أستاذهم إلى مناطق التطور أو مجالات التقدم ، فمن الطبيعي أن تكون الخطوات نحو أي تقدم تبدأ من الأستاذ ولا تنتهي عنده ، والكارثة الكبرى أن تكون عقلية الطالب سابقة لعقلية أستاذه أو حتى مساوية لها ، والمطلوب دائما أن تكون عقلية الأستاذ سباقة .
تعمل جامعاتنا بنظام الجراج متعدد الطوابق ، كل من يستقر في مكانه يمسك به ( دون وجه حق في كثير من الأحيان ) ، يعين عضو هيئة التدريس في الجامعة فيعتقد الخلود دون محاولة الانتقال إلى درجة أعلى (الترقية للدرجة الأعلى في الجامعة لا تتم بالأقدمية وإنما بما أنجزه العضو من أبحاث علمية في مساحة زمنية معينة تحكمها لوائح المؤسسة ) غير أن الواقع الكاشف عن عواره يضعنا أمام أجيال من الأساتذة لا تؤلف ولا تبحث ولا تترك مجالا لغيرها لممارسة عمل لم يعد ترفا ، ومن ثم نعيش وضعا مقلوبا ، من هم داخل الجامعة ينغلقون على أنفسهم فيغلقون عقول الأجيال ، في الوقت الذي نجد فيه خارج الجامعات ( من الحاصلين على الدكتوراه في الأدب والنقد مثلا )عقليات من الأولى الإفادة منها ليس لذاتها ولكن لأنها تمتلك ما تقوله خلافا لمن هم حجزوا مقاعدهم في الجراج.
إن فارقا واضحا بين العلوم البحتة أو التطبيقية والعلوم الإنسانية : في الأولى تتوازن المعادلة حيث يطور الأستاذ من نفسه ومن شخصيته العلمية بدرجة ما آخذا بيد طلابه إلى الجديد في مجاله مما تقل معه نسبة الصور الكربونية ، صورة الطالب المكررة عن أستاذه، وفي الثانية تعاني العملية التعليمية من تكرار الصور حيث تقل مساحة التفرد وتزداد مساحة التشابه ، وهو ما لا يعد مشكلة في العلوم الإنسانية ذاتها بقدر ما يتأسس على آراء لم تعد الأجيال قادرة على التماس الطرق إلى التعبير عنها ، في العلوم التجريبية الكلمة الفصل للمعمل والتجربة ، وفي العلوم الإنسانية تخضع الأمور للاجتهادات والآراء ولأن الأستاذ لم يجتهد في تربية تلاميذه على أن يكون لكل منهم شخصيته العلمية المستقلة ، ولأنهم محملون بميراث من الضعف العلمي ولأنهم يفتقدون للخلفية المعرفية التي لم تتوفر في ظل نظام تعليمي قائم على التلقين ومؤسس على فكرة خاطئة قوامها أن التعليم ماهو إلا تكديس مجموعة من المعلومات ومن ثم فلا مجال للابتكار أو الاكتشاف.
يتأسس على ذلك كله مشهد ثلاثي المكونات: أستاذ كاره لعمله متمرد على قواعد العلم تمرده على الحياة ذاتها، وتعليم مكروه من أجيال فقدت الثقة في قدرته على تشكيل مستقبلها أو قدرتها على فهم مجريات أمورها، وبينهما طالب محشور في المساحة الضيقة بين أستاذ متمسك بعمل يكرهه، وتعليم بات شكلا من أشكال التعذيب لكل الأطراف المشاركة.