السينما أهم الفنون التي تخلق حالة فكرية وتفاعلية مع المتلقي، ويمكنها أن تعيد تشكيل المجتمعات وتدفعها للإنجاز. هذا ما تهدف إليه المنتجة السينمائية ماريان خوري التي تقف اليوم ووراءها إنجاز 10 سنوات من بانوراما الفيلم الأوروبي.
موضوعات مقترحة
منذ البانوراما في عام 2004، فإن حماسها لم يخفت بل وجدتها في افتتاح البانوراما تثق بقدرات السينما على تغيير الذائقة الجمالية للشباب.
لم تتشدق ماريان خوري بالقوة الناعمة لمصر من خلال السينما أو التعايش المشترك والانفتاح على الآخر، وغيرها من الشعارات التي فقدت مذاقها ووقعها علينا كمصريين أولا، فما بالنا بمن حولنا؟! لكن تقف ماريان بكل صلابة لترسم المستقبل بالفعل لا بالكلام وهو ما نحتاجه حقيقة لمواكبة حركة السينما العالمية.
أروع ما قدمته البانوراما هذا العام أنها لم تقتصر فقط على شباب القاهرة والإسكندرية، بل تنطلق التظاهرة السينمائية في 10 محافظات في مختلف أرجاء مصر، والحق أن وجود هذه العروض في محافظات منسية ثقافيا، سيشعل شرارة الإبداع لدى الكثير من الشباب ويقدم لنا جيلا جديدا من المبدعين.
السينما سوف تفتح آفاقا أمام الكثير من الشباب من المؤلفين والكتاب ومن المخرجين والملحنين والفنانين وأطقم العمل خلف الكاميرا، ونحن أمس في أمس الحاجة لخلق جيل جديد يتابع ما بدأوا الرواد والمعاصرين، ويتسلم الشعلة.
تقدم البانوراما خلاصة التجارب الأوروبية الحديثة في عالم السينما، لا من خلال عروض الأفلام من 26 دولة أوروبية فقط، بل أيضا من خلال إشراكهم في ورش عمل للصوت والسيناريو والإخراج وغيرها من حرفيات الفن السابع.
هذه الخطوات الجريئة والواثقة من ماريان خوري وشركة "أفلام مصر العالمية" لا هدف من ورائها سوى تربية الذائقة السينمائية لدى الشباب الذين جرفهم التسطيح الفكري والثقافي، وهي الأسس التي وضعها خالها المخرج العالمي الراحل يوسف شاهين. فلا هي مبادرة تسعى للحصول على التمويل أو الشهرة أو الدعاية وإنما هدفها فتح الآفاق وإزالة الحواجز الفكرية والثقافية بين الشباب المصري ونظيره الأوروبي. وكما يقول الفيلسوف الأمريكي والناقد السينمائي ستانلي كفيل "الثقافة السينمائية تمد الإنسان بثقة بنفسه".
إن ما يدعو للفخر حقا، أن برنامج عروض البانوراما هذا العام تم اختياره من قبل شباب "سينما زاوية" التي تقدم عروضا متميزة طوال العام ولا تنغلق فقط على أفلام هوليوود.
هؤلاء الشباب الذين لا تزيد أعمارهم على الثلاثين عاما، هم نواة لمهرجانات سينمائية مصرية مشرفة. الأفلام تعكس وعيا سينمائيا قويا بالحركة السينمائية العالمية من خلال 55 فيلما ما بين التراجيدي والكوميدي والاجتماعي والوثائقي والتحريك. هذه البانوراما فرصة للولوج لعالم السينما الأوروبية التي تتضمن قيم جمالية كثيرة وهي مختلفة عن السينما الأمريكية في اهتمامها بالعمق الإنساني والتحولات المجتمعية والقضايا الإنسانية وربط الماضي بالحاضر، ومن خلال الانفتاح عليها سوف تخلق لدى الأجيال الجديدة قيما ثقافية جديدة ومتنوعة تجب التطرف الفكري وتدعم الاندماج الثقافي والحضاري بدلا من الصراع والتناحر الفكري الذي تعايشه بعض المجتمعات العربية.
كما يقول الفيلسوف الفرنسي إدجار موران "الأفلام الروائية تخبرنا بالحياة اليومية للشعوب وتجعلنا نكتشف الشيء الأجمل وهو المتعلق بالتشابه والاختلاف عنا.. الشعوب لديها الأحاسيس نفسها والآلام نفسها والمشاكل أيضا.. في هذا الفضاء الإنساني "السينما" نجرب تنوعه لأننا نرى اختلافاته، تفرده وأخلاقه؛ لأن هذا الغنى الإنساني مبني على التنوع".
في الواقع، كنا ننتظر فرصة حضور مهرجان القاهرة السينمائي أو الإسكندرية لمشاهدة "السينما الأوروبية" وكنا نتعرض لتضارب المواعيد والجداول إلغاء العروض وغيرها من الأشياء التي تفقد متعة الاستمتاع ناهيك عن ضغوط العمل وتغطية الحدث. الآن تتيح البانوراما ذلك مع انتقاء الأفلام التي حققت نجاحا جماهيريا ونقديا وحصدت الجوائز مع عروض منضبطة وجدول عروض بعضها مجاني في أماكن موزعة جغرافيا بشكل دقيق.
البانوراما مستمرة في عروضها حتى 18 من شهر نوفمبر الجاري وتدعمها مجموعة من المراكز الثقافية الأجنبية ومراكز السينما المستقلة في مصر.
وإن كانت أوضاع السينما المصرية تحتاج لوقفه ودفعه جديدة تعيد لها سابق مجدها، فان البانوراما تحث أجيالا جديدة على ذلك من خلال العمل الصادق وعدم الاتكال على توجيه النقد فقط. علينا جميعا أن نقف خلف "البانوراما" وماريان خوري التي تقوم بدور طليعي لا يقل أهمية عن الدور الذي قامت به رائدات السينما المصرية: بهيجة حافظ، وعزيزة أمير، وماري كويني، وآسيا، ونتظر منها المزيد.## ##