لم يعد مفهوم "المعرفة قوة" مجرد شعار يمكن تبنيه للإلمام بالمعلومات وامتلاكها، وإنما غدا يمثل منطلقا لنهضة الشعوب وتطورها، وذلك في ظل التطور العالمي المعاصر، والتدفق المعلوماتي، والانفتاح الثقافي ، بل بات الخطاب ما بعد الحداثي ينظر إليها ـ أي المعرفةـ بوصفها سلعة تباع وتشتري، وآلية من آليات القوة بمفهومها الإستراتيجي، ومن ثم تخضع لإمكانية تبادلها وتقييمها بمفاهيم خارجة عنها، تنتمي في الغالب الأعم إلى علوم الاقتصاد ونظرياته والتيارات الفلسفية، التي تعتمد عليها المجتمعات، وما يتعلق بها من قوانين المنفعة المادية، أكثر منها انتماء لحقول المعرفة، وما رسخته مفاهيم المرجعيات الثقافية عبر العصور، إضافة إلى الاتجاهات السياسية العالمية، والصراع بين القوى الكبرى، وبخاصة مع تغير إستراتيجيات هذه القوى، واعتمادها سياسات التغيير الثقافي لخدمة أهدافها، فميزان القوى في العالم يتغير، وآلياته الأساسية في هذا التغيير، يتمحور الكثير منها حول حاضر ومستقبل القوة الناعمة، التي تعد الثقافة مكونا أساسيا لها.
موضوعات مقترحة
إن أخطر ما يواجه الثقافة في إطار هذه التحولات، يتمثل في تلك المحاولات التي تسعى لإزالة الحدود بين الشعوب وموروثاتها الثقافية، تحت مسمى العولمة، واعتمادها على فلسفة التفكيك كمرحلة أولية، ثم على فلسفة المجتمع المفتوح في مرحلة تالية، والتي تفترض بدورها ذوبان الهوية الثقافية في إطار كل أكبر، والتقريب بين المتباعدات ومحو الفوارق، والانتصار لأفكار التعددية الواردة على حساب الهويات القومية، التي تسعي لتوحيد الهوية، أو على أقل تقدير اختيار الهوية المعيارية، التي تلتف حولها الهويات الفرعية، أو يجب أن تلتف حولها الهويات الفرعية.
والأمر لو سار على هذا النحو – إستراتيجيات العولمة وأهدافها المعلنة - فهو الحلم الذي عملت البشرية منذ نشأتها سعيا للوصول إليه، ولكن تبقى التساؤلات حول طبيعة هذه الهوية العالمية المرجو الاستظلال بظلها، وحول هوية مَن سيعيد تشكيل الهوية، وبمفهوم الفكر ذاته : مَن المستفيد ؟ وما المنفعة الكامنة خلفها وعلى من ستعود أو يجب ؟ أهي منفعة لصالح البشرية جميعا ، أم منفعة من يري أنه يجب أن يكون ، وما دونه ليست له كينونة ؟ بل لايجب أن يكون له وجود ؟ وأخيرا، حول طبيعة الثقافة التي يجب أن تسود ؟ وعلى حساب أية ثقافة ؟ ومن الذي سيصوغ هذا الكل الأكبر ولصالح من؟
ويطرح مجتمع المعرفة بعدا مهما يتمثل في النواتج التي يمكن أن تترتب عليه – والتي بدأت بالفعل – والمتمثلة في مفهوم القوة الناتج عن امتلاك المعلومات والمعلوماتية والقدرة على توظيفها وصناعتها information making، ذلك أن صناعة المعلومات هي التجارة الرائجة، وهي القوة ذاتها التي أصبحت الآن تتحكم في مقدرات الشعوب، وتعيد صياغة مفاهيم القوة في العالم ، بحيث غدت الشعارات الدولية تستجيب لخدمة هذه المصالح ، مثل شعار انتقال المال من أيدي القلة إلى المعرفة في أيدي الكثرة، وانتقال السلطة من مفهوم القوة البدنية إلى القوة العقلية ، وصناعة الميديا ، وإعادة تشكيل المتطلبات الأساسية للحياة متمثلة فيما أطلق عليه ( Media literacy) ، وتفكيك الشعوب من الداخل بأيدي أبنائها عن بعد ، وغيرها من الشعارات التي تكمن وراءها أهداف خفية تتنوع بين السياسية والتجارية والاقتصادية، وأحيانا المعرفية بمفهوم نشر العلم وتعلمه.
هنا تغير مفهوم الثقافة، وانتقل من مجرد كم المعلومات المختزن في عقول جماعة من الأفراد، أو مخطوطاتها الأثرية ، وتراثها المكتوب، إلى مفهوم الثقافة المعتمد على الإنتاج ، والمرتبط بتحقيق مكاسب اقتصادية على نحو ما، أي التحول من مفهوم المعرفة المرتبط بالوجاهة الاجتماعية إلى مفهوم المعرفة المرتبط بالاقتصاد، ومن ثم المرتبط بالقوة .
وقد عرف تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003م " نحو إقامة مجتمع المعرفة" عرف مجتمع المعرفة على أنه المجتمع الذي يقوم أساسا على نشر المعرفة وإنتاجها وتوظيفها بكفاءة في جميع مجالات النشاط المجتمعي : الاقتصاد والمجتمع المدني ، والسياسة والحياة الخاصة ، وصولا لترقية الحياة الإنسانية باطراد ".
ولعل نظرة سريعة إلى متغيرات المعلومات تكشف عن ذلك، وبخاصة فيما يتعلق بتضاعف حجم المعلومات، والإحصاءات التي تشير إلى أنه في كل ثانية تظهر معلومة جديدة في كل علم على الأقل إن لم تكن تزيد عن هذا الحد، وهو ما يطرح تساؤلاته في كافة مجالات ومناحي الحياة الثقافية، بدءا من التعليم ، ومرورا بالصحة وعلوم الفلك والكون ومظاهر تطور الحياة ، وتطور الإنسان ذاته ، والمخ البشري والكشف عن أسراره ، وإمكانات تطور العقل البشري بعامة.
وتكمن خطورة ذلك التسارع المطرد، في كيفية القيام بدور ما في نقل المعرفة والوعي الثقافي للأجيال القادمة، فالثقافة والمعرفة لم تعد كما مختزنا من المعلومات التي تحتاج إلى تعليمها للأجيال القادمة ، وإنما يتخطي الأمر تلك المرحلة، مثال ذلك التعليم، سواء قبل الجامعي أو الجامعي، ففي التعليم نحن نعلم الأسس والقواعد والنظريات والمعارف، ولكن في ظل التطور المطرد لتضاعف المعلومات والمعلوماتية، فإن التساؤل القائم حول ماذا نعلم، وما الذي يضمن ثبات ما يمكن أن نعلمه لمتعلم بعد عام ونصف فقط، فمتعلم الهندسة على سبيل المثال حين يتعلم نظرية ما، فكيف نضمن بقاء استخدام هذه النظرية بعد عام ونصف، وبالتالي كيف نضمن أن تكون نواتج التعلم صالحة للمنافسة العالمية بعد تخرج المتعلمين ، هنا يجب البحث عن حلول أكثر فاعلية ، وقد تكمن في تعليم كيفية التعلم ، وفي تعليم الأنماط والنماذج والمهارات الأساسية ، مثل نموذج حل المشكلات، ومهارات القيادة، ومهارات إدارة المعرفة (أي معرفة )، ومهارات الوعي بالذات، والعمل في فريق، واستراتيجيات التعلم المختلفة .. إلخ من الثوابت التي لاتمثل معرفة، وإنما تمثل مداخل وأشكالا متنوعة للتعامل مع المعرفة.