بدأ عقد السبعينيات في مصر بحالة فقدان اليقين، وخلخلة الثوابت، واجتاح التململ والاغتراب عن المألوف الساكن سواء على المستوى الفكري أم الإبداعي.
موضوعات مقترحة
لقد خلقت هزيمة يونيو67- وبعدها مرحلة الاستنزاف- شعورا عارما بالفوضى ورغبة في الخروج من واقع هش، يحمل في ظاهره الثبات وفي باطنه الانهيار، فلم تحمل السياسة سوى الانقسام وصعود تيارات مناوئة للسلطة تندد بحالة اللاحرب واللا سلم، وما رافق ذلك من ثورات وانقلابات تلاحقت حتى حرب 1973م وما فرضته هذه الحرب على بنية المجتمع المصري وما رافقها من تحولات كبرى في البنية السياسية والفكرية والاقتصادية أدت إلى صعود الاحتجاج والرغبة في نبذ المستقر والنموذج، والصراخ في وجه السلطة التي فرضت قبضتها ضد المتعطشين إلى الانفلات من زهو الزيف السياسي، فآثرت جماعات من شباب المثقفين والشعراء النضال ضد الغطرسة وكبت الحريات ورفض واقع جديد يكمن في انهيار الطبقات الاجتماعية من خلال سياسة الانفتاح الاقتصادي فشارك أبناء هذه المرحلة في مظاهرات جامعة القاهرة.
في هذا المناخ المحموم ظهر جيل السبعينيات الشعري، معبأ بتحولات عميقة، جعلته يناقش المطروح أكثر من قبوله، ويطرح بديلا قابلا للنقاش ، يكشف "رفعت سلام" الظروف التي خلقت هذا الجيل وحددت رؤاه النظرية وحدت به نحو تحقيق جمالي يخلق واقعا جديدا. يقول رفعت سلام كاشفا عن المناخ السياسي والثقافي اللذين شكلا ملامح جيل السبعينيات : فيبدأ بالمناخ السياسي:
"يبدأ المناخ الذي ظهر من خلاله شعراء السبعينيات في نظري ببداية عقد السبعينيات تقريبا . وينتهي مع نهايته . ربما كان النصف الأول يصلح لاعتباره مرحلة تكوين ثقافي وشعري ، ففيه(أي عقد السبعينيات) نلمس المنابع الثقافية والشعرية والاجتماعية بعامة. ويصلح النصف الثاني لاعتباره بداية العطاء الشعري الخاص بهذه المجموعة أو بهذا الجيل من الشعراء لنعد إذن إلى النصف الأول لنكشف أن بداية تكوين هذا الجيل بدأت فيه وربما ترجع إلى ما هو أبعد، أعني إلى هزيمة يونيو 1967م وموت عبد الناصر ، ثم مبادرة السلام.. إلخ.
لقد كان هذا كافيا لكي يكون التكوين السياسي والفكري والثقافي لهذا الجيل مختلفا عما سبقه من شعراء وأجيال. شهد الشعراء من الأجيال الأخرى بدايات ثورة يوليو وماسمى بالقوانين الاشتراكية وبناء السد العالي وشهدوا العديد من الانتصارات على الصعيد الوطني والقومي.
أما جيلنا فقد قيض له أن يرى الانتكاسات فحسب لا الانتصارات. نحن ننتمي إلى الجيل الذي أشعل مظاهرات 1972م . ننتمي إلى الجيل الذي شهد أول اعتقالات في السبعينيات فتحمل كل هذا بينما كان الكثيرون من الأجيال السابقة من الشعراء والمثقفين يتعاطفون مع النظام، بل يدخلون وزارته ، حتى بعض التيارات الماركسية التي يفترض أن تكون أكثر الاتجاهات ثورية ساندت النظام ، ودخل أفراد منها وزارة السادات. وهذه المفارقة الحادة بين جيل يدخل الوزارة وآخر يدخل المعتقل يكشف جزءا من التفاوت الشاسع في المسافة بين التكوين السياسي والاجتماعي والثقافي لجيل السبعينيات وتكون الأجيال التي سبقته".
ويقدم- بالإضافة لما سبق- المناخ الثقافي أو الإجابة الثقافية فيقول عنها: "هي لا تختلف عن الإجابة السياسية التي قدمتها، التكوين الثقافي لجيلنا مختلف اختلافا كيفيا عن غيره ، بينما كانت الأجيال السابقة تتغنى بصعود الاشتراكية وصعود المد القومي ، فنحن كنا نحس بالانهيار بالنسبة لنا لم تعد القومية مجرد شعار مثلا، وإنما بحث عن الخصوصية التي تميز بلدا عن آخر في إطار المشترك العام. ليس على الصعيد السياسي فقط و لكن ابتداء من التكوين الاجتماعي – الاقتصادي الأول . الخصائص الفارقة لكل بلد على حدة. ماعلاقة الفرعونية تحديدا بالثقافة العربية وعلاقة الأشورية أوالكنعانية بالعربية؟ هذه التمايزات في إطار الوحدة كانت مغفلة من جانب الأجيال التي سبقتنا.
تتضح المسألة بشكل أكثر خصوصية في الإجابة الشعرية. لقد ظهر جيل السبعينيات في مصر فإذا الشعر في حالة استرخاء شامل كان صلاح عبد الصبور قد أعطى عطاءه الأخير في شعره في ديوان " شجر الليل" وكان حجازي قد أعطى عطاءه في "مرثية للعمر الجميل" وربما كان أمل دنقل قد أعطى عطاءه منذ ديوانه الأول ، وكان عفيفي مطر قد أعطى في ديوانه " النهر يلبس الأقنعة".
ويرصد الشاعر محمد بدوي تحولات الشعرية من الالتزام ونبوية الشاعرفي القصيدة التفعيلية إلى الإشكالي في شعر السبعينيات، مشيرا إلى التحولات الجمالية والفكرية التي كانت مهيمنة على قصائد شعراء التفعيلة فيقول"كان عبد الصبور يلتجئ إلى الأليجوري الذي يقرنه كولردج باقتناص شحوب الأشياء لأنه لا يحتمل سوى مدلول واحد في التضمين يلتجئ إلى أدوات سهلة في تشبيه الصورة تقف "كأن" بين المشبه والمشبه به جدارا يفصلهما ويجعلهما واضحين في بنية الجملة يلتجئ إلى الجناس "البنات/النبات"في البيئة الشعرية يلتجئ إلى تضمين بدائي . يمكن تلمسه لدى النظرة الأولى.
وفي شعر دنقل يلتجئ الشاعر الذي يتوهم نفسه نبيا إلى المفارقة بين موت مناضل والاختصام في نتائج الكرة مثلا أو "هل منحتني الوجود لكي تسلبني الوجود" أو الصورة الفكرية " كان قطار الرمل منبعجا كامرأة في أخريات الحمل " أو الاتكاء على القافية المتواترة الحادة.
أما شعراء السبعينيات فقد حاولوا خلق قصيدة مكتنزة هربوا من الشعر السريع العائد إلى اللغة التي تصبح كأنها- كما يقول تودروف – في عرس ، وخلقوا قصيدة تحوز أرقى إنجازات من سبقوهم، وتضعها في سياق مغاير في قصيدة غير إعلامية هي – إذن- كما يقول أحمد طه"تزجر الجمهور العام" لتخلق الجمهور الإشكالي الذي لن تذهب القصيدة إليه إلا بالقدر الذي يهرول هو نحوها".
أما على المستوى الشعري فقد حدثت ردة فعل عنيفة وتحول مغاير في الدرجة والنوع أدت إلى ظهور جماعات ذات أيديولوجيات فكرية وجمالية مغايرة، لا تحمل – فى عمومها – الولاء المطلق للنموذج أو الأب، بل تبنت الخروج والهدم والبناء في آن واحد، وبدلت الإجابات الجاهزة بالأسئلة المارقة الحارقة التي تهدد كيانات متكلسة في أجوبة جاهزة وتقليد تالف. شهدت الساحة الشعرية ظهور مجموعتين مكتوبتين في سجلات الشعرية المصرية عبر مسميات: (إضاءة 77) و"أصوات" ، ومجموعة أخرى بين بين.