Close ad

عبد الحليم حافظ والأسرار السبعة

30-3-2017 | 16:21
عبد الحليم حافظ والأسرار السبعةعبد الحليم حافظ
ناصر عراق

عندما أشاهد عبدالحليم حافظ في أحد الأفلام على شاشة التلفزيون لا أتخيل أن هذا الفنان المتفرد قد غاب عن دنيانا قبل أربعين عامًا بالتمام والكمال؛ إذ مازال حضوره مشرقًا وصوته صادحًا يطرب الوجدان، ومازلت أتذكر جيدًا كيف تلقينا خبر وفاته يوم 30 مارس 1977، حيث كنت آنذاك طالبًا في الصف الأول الثانوي بمدرسة شبرا الخيمة الثانوية العسكرية، فاعترانا الذهول وسرت في أركان المجتمع المصري نوبة حزن عميقة تجلت في مأساة الفتاة التي فقدت رشدها وهرعت نحو العمارة التي يقطن فيها حليم بالزمالك ورمت نفسها من الدور السابع لتلقى حتفها في الحال، بعد أن تركت لأسرتها رسالة دامعة تعلن فيها أن الحياة لا معنى لها مادام أغلى إنسان فيها - وهو حليم- قد مات!

ترى، ما السر الذي جعل عبد الحليم يتبوأ هذه المكانة المرموقة من قرن إلى آخر؟ ولماذا لم يبلغ أي مطرب آخر المجد العظيم الذي بلغه - رغم أن صوت حليم محدود الإمكانات بشهادة نقاد الموسيقى والغناء؟ عندي سبعة أسرار تفسر ظاهرة عبد الحليم، ولكن قبل أن أتلوها عليك، أود إخبارك بأنني كتبت دراسة طويلة استحوذت على عشرة صفحات كاملة في مجلة "دبي" الثقافية التي كنت أدير تحريرها لمدة ثمان سنوات، وذلك في عدد مارس 2007 بمناسبة مرور 30 سنة ساعتها على رحيل العندليب الأسمر، وكان عنوان الدراسة "عبدالحليم حافظ.. الظاهرة والتفسير"، حيث اهتمت بها جمعية "أصدقاء عبد الحليم" ووضعتها في موقع الجمعية على الإنترنت.

أما الآن، فإليك الأسرار السبعة التي تفسر ظاهرة حليم من وجهة نظر سياسية اجتماعية فنية:

1- ظهر حليم للمرة الأولى للجمهور في لحظة سياسية اجتماعية فارقة في حياة المصريين، فأغنياته التي عرفها الناس مثل "صافيني مرة، يا تبر سايل، على قد الشوق، توبة، أهواك" كانت عقب ثورة 1952، وأول أفلامه "أيامنا الحلوة" عرض في 1955، وأنت تعلم أن ثورة يوليو 1952 أطاحت بالنظام الملكي، بثقافته وباشاواته وانحيازاته وألقابه وأذواقه وشواربه وأزيائه، الأمر الذي جعل الناس تستقبل حليم بوصفه يمثل قطيعة تامة مع هذا النظام الذي عانت الملايين من استبداده وظلمه (كان عدد المصريين عام 1952 نحو 21 مليون نسمة يعيش منهم نحو 15 مليون في ظروف بالغة القسوة تتجلى في الفقر والجهل والمرض).

2- فتح جمال عبد الناصر في الخمسينيات الباب واسعًا أمام ملايين الشباب والبنات من أبناء البسطاء والفقراء لتدخل المدارس الثانوية والكليات بالمجان، بعد أن كان التعليم مقصورًا على أبناء الأثرياء؛ نظرًا لتكاليفه الباهظة أيام الملك، الأمر الذي رفع مستوى الذوق العام للغالبية العظمى من الشعب، وأنت تعلم أيضًا أن الطلبة هم الجمهور الأول للسينما على مر العصور، لذا واظبت الملايين على حضور أفلام عبد الحليم حافظ لأنها اكتشفت أن هذا المطرب الجديد يعبر عن طموحاتها وأحلامها، وأذكرك بأن عبد الحليم قام ببطولة 15 فيلمًا وثلث الفيلم، "أعني البنات والصيف" 1960، تقمص فيها كلها شخصية طالب الجامعة أو الذي تخرج توًا من الجامعة، باستثناء فيلم "دليلة" 1956، الذي لعب فيه دور كهربائي، ففشل الفيلم ولم يحقق النجاح المطلوب، وقد قلت هذا الكلام في حواري مع النجم سمير صبري في لقاء أجراه معي قبل عامين في برنامج (ماسبيرو).

الغريب أن آخر فيلم لعبد الحليم حافظ "أبي فوق الشجرة" 1969 جسد فيه دور طالب جامعة أيضًا رغم أنه قد بلغ الأربعين من عمره آنذاك (مولود في 21 يونيو 1929).
3
- الكلمات التي ترنم بها حليم في أغنياته بلهجة القاهرة تؤكد أنها تعبر عن مشاعر الطالب ابن القاهرة، واللهجة القاهرية طرية محببة وشائعة في كل أنحاء مصر ومعروفة للشعوب العربية كلها، لذا لم يردد أو يعبر عن مشاعر ابن البلد أو الفلاح أو الصعيدي، ولك أن تتساءل هل كان من الممكن أن يغني حليم كلمات من نوع "يا شبشب الهنا يا رتني كنت أنا"، أو "يا نجف بنور"، أو "تاكسي الغرام"، أو "منديلي الحلو"، تلك التي تغنى بها مطرب "الجماد" عبد العزيز محمود، على اعتبار أنه يمتدح الجماد "تاكسي، شبشب، نجف، شباك، منديل"؟ أو هل كان من المستساغ أن يترنم حليم بكلمات من نوع "يا ولاد بلدنا يوم الخميس.. هاكتب كتابي وابقى عريس" التي غناها محمد فوزي؟ أو "ساكن في حي السيدة وحبيبي ساكن في الحسين" لمحمد عبد المطلب؟ أو "يا رايحين الغورية هاتوا لحبيبي هدية" لمحمد قنديل؟ إذن كان الرجل يمثل قطيعة بمعنى من المعاني مع منطق الغناء الذي ساد قبل ظهوره.

4- انفعل عبد الحليم بصدق مع سياسات ثورة يوليو وآمن بتجربة عبد الناصر، فشدا بمجموعة مهمة وجميلة من الأغنيات الوطنية التي تلقاها الملايين بكل حماسة، ورددوها معه إيمانًا بأنهم يسيرون في طريق التحرر من الاستعمار وتطوير البلد وتحقيق العدالة الاجتماعية، ولتتذكر معي أغنيات "صورة، حكاية شعب عن السد العالي، بالأحضان، المسؤولية، بلدي يا بلدي"، ولما وقعت الهزيمة في 1967 سارع حليم إلى بث روح المقاومة في نفوس سامعيه بأغنيات "عدى النهار، سكت الكلام والبندقية اتكلمت، أحلف بسماها وبترابها، والمسيح".

5- لم يكن حليم بقادر على تحقيق هذا المجد لو لم تمنحه المقادير كوكبة معتبرة من الشعراء المتميزين والملحنين الموهوبين الذين أخلصوا للعهد الجديد من جهة، كما أنهم كانوا أبناء بررة لإنجازات ثورة 1919، تلك التي أسهمت بنصيب كبير وبالغ الأهمية في تطوير الذائقة الفنية لدى الناس، ولنذكر من الكتاب والملحنين: إسماعيل الحبروك، مرسي جميل عزيز، صلاح جاهين، عبد الرحمن الأبنودي، ومجدي نجيب، أما الملحنون فهناك محمد الموجي، كمال الطويل، وبليغ حمدي، وكبيرهم الذي علمهم الموسيقى والغناء محمد عبد الوهاب.

6- البنيان الجسدي لعبدالحليم هو السر السادس في تفسير الظاهرة "الحليمية" إن جاز القول، فالرجل يتمتع بقسمات هادئة، فالعينان عميقتان يطل منهما بريق ذكاء يختلط بحزن، والجبين منبسط يوحي بالاطمئنان، أما الجسد فقليل ونحيل يناسب الإنسان المسالم غير العدواني، لذا لم نره يشتبك بيديه في عراك مع أحد في أي مشهد من أفلامه، كما لم نره يضع الطربوش فوق رأسه كما كان يفعل مطربو العهد الملكي!

7- أما السر السابع فيتمثل في ذكائه الاجتماعي ومهاراته المدهشة في ترويج نفسه وفنه؛ فقد كان حريصًا على إقامة علاقات طيبة مع كبار الصحفيين والكتاب، ليضمن أنهم سينشرون أخباره ونشاطاته الفنية، كما أسهم مرضه في جلب تعاطف الناس مع حالته، كذلك لعبت حكاية عدم زواجه دورًا مهما في ترويج صورته بوصفه شابًا وحيدًا يبحث عن الحب بلهفة.

أجل، كان عبد الحليم حافظ يمتلك صوتًا حنونًا واضح الحروف، كما كان يتمتع بإحساس طازج وصادق موشّى بأداء سلس، لكن دون الظروف المواتية التي ذكرتها قبل قليل، وإخلاصه الشديد في عمله، ما كان بقادر على الحضور بقوة والاستحواذ على إعجاب الناس واهتمامهم به من قرن إلى آخر.

كلمات البحث
اقرأ ايضا: