Close ad

غلطة مختار عيسى المطبعية

27-3-2017 | 14:08
غلطة مختار عيسى المطبعية  مختار عيسى
أحمد فضل شبلول

لم أدر غلطة مَنْ هي؟ غلطة مختار عيسى الذي أهداني الجزء الثاني من ثلاثيته لأقرأه قبل الجزء الأول، أم غلطتي لأنني لم أطلب منه الجزء الأول قبل أن أشرع في قراءة الجزء الثاني، أم أن الغلطة جاءت متوافقة مع عنوان الجزء الأول من عمله الروائي الكبير الذي لم تتضح معالم اسمه النهائي بعد، وإن هذا الجزء يحمل عنوان "غلطة مطبعية"، أما الجزء الثاني فقد تعرضنا له من قبل وهو "استربتيز"، وذلك في مقالنا السابق "استربتيز تعري الواقع السياسي وتتنبأ بأحداث الثورة".

على أن الجزء الأول من الثلاثية يغلب عليه تشابك العلاقة الجنونية بين المهندسة الشاعرة نهال السكري، والكاتب الصحفي مراد المصري، الذي يعمل في إحدى صحف مملكة البحرين، والتي تنتهي بانتحار نهال السكري ودخول مراد في حالة انطواء نفسي شديد الخطورة، أو انهيار نفسي، يشيد من خلالها أسطورته "رولانا بنت سارتاح وهيمارا" التي لم تتضح معالمها لي في الجزء الثاني، ولكنها كانت شديدة الوضوح في الجزء الأول.

لقد حاول مختار عيسى أن يؤسطر تلك العلاقة الغريبة والملتبسة بين نهال ومراد بأن يخلق شخصيتين موازيتين من عالم الأساطير، فكانت رولانا وهيمارا. وأكاد أزعم أن الشخصيتين غير موجودتين في عالم الأساطير الغربية أو الشرقية التي اطلعنا عليها، وإنما هما من وحي خيال الكاتب، وهي ميزة تضاف إلى ثلاثية مختار عيسى التي لم يصدر جزؤها الثالث بعد، وإنما عرفت من الكاتب أنه يعمل على إتمامها هذه الأيام.

ورغم تصاعد الأحداث وتطور الشخصيات في الجزأين الأول والثاني، فإن زوجة مراد المصري، مرام، تظل شخصية ثابتة على حالها ومواقفها في كلا العملين، فالدنيا تتحرك حولها وتنكشف العلاقة غير الشرعية بين زوجها وتلميذته الشاعرة نهال السكري، ويتعجب الأصدقاء في المدينة الصناعية الكبرى من تطور تلك العلاقة على نحو متسارع، ولكن تظل شخصية مرام رافضة لتلك العلاقة، غير أنها لا تستطيع أن تتحول بذلك الرفض إلى مناطق أخرى، على العكس من شخصية هالة (ابنة نهال السكري) التي لم يكن لها دور كبير يذكر في الجزء الأول "غلطة مطبعية"، ولكنها كانت عمادًا أساسيًا من أعمدة الجزء الثاني "استربتيز"، حيث خرجت من عزلتها وتقوقعها واكتئابها النفسي لتشارك بفعالية مع الكاتب الصحفي الشاب واثق في إشعال الثورة، وتظل مرام شخصية غير متطورة دراميًا.

مراد المصري نفسه وقع في النمطية في الجزء الثاني بعد أن كان محركًا للأحداث في الجزء الأول، ولكنه آثر الهدوء والاستسلام للمرض والاكتئاب النفسي في الجزء الثاني الذي يبدأ من حيث انتهى الجزء الأول بواقعة انتحار حبيبته ومعذبته نهال السكري، وانكشاف حقيقة شراكتها للوزير السابق الكادر الحزبي الكبير في ترويج المخدرات التطبيعية.

التعري الجسدي كان هو المسيطر على أجواء "غلطة مطبعية"، وشاهدنا طقوسًا جنسية وقرأنا صفحات لمشاهد عُري بين مراد ونهال، في حين كان التعري السياسي هو المسيطر على أجواء "استربتيز"، حيث ينكشف ما كان غامضًا سياسيًا في الجزء الأول، على حساب الوضوح الجنسي في ذلك الجزء. ومع ذلك فإن رقصة الاستربتيز نفسها بمعناها الواقعي كانت أشد وضوحا في الجزء الأول عنها في الجزء الثاني، حيث تتضح معالم تلك الرقصة في أحد مشاهد تعري نهال أمام شخص ما، لم تتضح معالمه في الشريط المصور. وهو ما حاولت ابنتها هالة أن تفسره بعد أن قررت أن تكشف الحجب الكثيفة عن علاقات والدتها مع العديد من الأطراف السياسية المصرية وغير المصرية.

وما يحسب للرواية في جزئها الأول هو قدرتها الفائقة على بناء تلك الشخصية الغريبة والمتطورة دراميًا والمعقدة والناعمة والشرسة في الوقت نفسه، وأعني شخصية نهال السكري، على نحو يمهد لعملية الانتحار التي أقدمت عليها في نهاية الرواية، وقد صورت الرواية ذلك المشهد الذي يمتزج فيه الجنون، الحب، الأسطورة، مع الاعتراف بالخيانة العظمى:

"في الصباح حملت نشرة الأنباء المحلية أن الشاعرة المهندسة نهال السكري لم تقاوم الانهيار النفسي بعد أن عرفت حقيقة مساعدة ابنتها هالة للصحافي الشجاع وظلت تصرخ في مستشفى الأمراض العقلية منادية هيمارا: إن لم تحضر سأموت، كلهم ضدي، يريدون ذبحي، وحدك من ستنقذني. ثم خطت على صدرها بما يشبه نجمة سداسية قبل أن تلقي بنفسها من الطابق السابع صارخة: الآن أطير إليك، تلقفني يا هيمارا، لتصل إلى الأرض أشلاء متناثرة وسط ذهول العاملين في المستشفى الذين وقفوا عاجزين أمام الموقف. . .".

هل كان الكاتب الصحفي مراد المصري هدفًا لقوى سياسية لا يعلم عنها شيئًا، أم كان هدفًا للمتع والإثارة الجنسية فحسب من قبل نهال السكري؟ يبدو أن هذا السؤال هو الذي أوقع مراد فريسة للمرض النفسي، ما بين إغمائة وإفاقة، وبين غياب وحضور ذهني، وهو ما أثر على حضور الأسطورة والسحر في بعض فصول الرواية، فضلًا عن حضور شيخه الذي أكد له أكثر من مرة أن نهال "هدية السماء" إليه.

موضوعات مقترحة

يقول له شيخه: "اسمع يا مراد، لعلك يا بني تتساءل عن غيابي الطويل عنك، ثق أنني أحبك، ولا أتخلى ولن أتخلى عنك ما حييت، فقط تفرض الأحداث أوقاتها، ويتوجب الأمر كذلك أن أتركك للتجربة، خصوصًا تجربتك مع نهال (هدية السماء)، فالتجارب يا بني شيوخ، وملوك، وأباطرة، المهم أن تتعلم يا مراد. . .".

ولعلنا نتساءل بعد أن عرفنا ما عرفنا عن نهال السكري وشبقها الذي لا ينتهي، وانخراطها في جماعات مشبوهة، وصلتها بميسون الدمشقية التي يتضح أنها لم تكن سوى جولدا اليهودية الإسرائيلية التي تعمل اختصاصية نفسية في جهاز "الموساد"، كيف تكون امرأة بهذا الشر "هدية السماء" لكاتب صحفي مصري يعمل في جريدة بالبحرين؟ ويعيش أيامه بين المنامة والمحلة الكبرى؟

هنا تكمن الخلطة الواقعية والفنية المتميزة لثلاثية مختار عيسى، التي لم نجد فيها (حتى جزئيها الأول والثاني) أي ذكر لتشابك الحياة في بلد خليجي مثل البحرين، على عكس ما شاهدناه في رواية "31" لأشرف أبواليزيد وتدور أحداثها في سلطنة عمان، ورواية "العاطل" لناصر عراق والتي تدور معظم أحداثها بين دبي والشارقة وغيرها من الروايات التي تتخذ من دول الخليج مسرحًا لأحداثها كرواية "الخليج" لمحمد جبريل على سبيل المثال. ولكننا في "غلطة مطبعية" لم نر شيئًا من البحرين، رغم حضورها كمكان يعمل فيه مراد المصري.

على أية حال نحن في انتظار الجزء الثالث من ثلاثية مختار عيسى، لعلنا نجد إجابات عن بعض الأسئلة.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة