ولأنها روايته الأولى، فقد حاول أن يضع فيها كلّ ما يريد، كلّ ما يحلم به في فنّ الرواية، وقد تصوّر أنه آدم سيصنع عالماً من أول وجديد، فبحث عن فكرة غريبة، أن يوحّد بين الديانات الثلاث في قفص واحد، رجل هو نتاج زيجة غريبة (في المجتمع المصريّ، نسبياً) من مسلم ومسيحية، يسميه (يوسف) بكلّ ما يحمله الاسم من دلالات ثرية، يصادف امرأة يهودية، تريد أن تنجب منه، حتى يخرج النسل ممزوجاً من الديانات الثلاث، يوحّد بينها، ويصهر خلافات الناس في بوتقة قد تصبح سعيدة كلها سلام وأمان، لكن الأمر ينقلب عليه، تأكل روحه الخيانة، كما تصوّرها، ولا يعود إلى أهله إلا طريداً موهَناً لا يصدق حتى نفسه، ولا يرى أحداً إلا مجرد هواء تعبث به الريح في يوم عاصف.
في رواية (ابن القبطية)، للمبدع المصريّ وليد علاء الدين (الكتب خان، 185 ص)، ثلاث مستويات من السرد: في البداية يضع فصولاً تستحثّ القارئ على تلمّس الدرب الذي يريد أن يرسلهم فيه، فكانت الفصول هادئةً رخيةً، تحكي ملامس الحكاية، لا تقول الكثير لكنها تؤطّر المكان وشخوص المكان، تؤهّل النفس لتقبّل التجربة، وقد نراها مثل (متوالية قصصية) وراء بعضها البعض، تشي وأنت تقرأها بعالم الرواية لكن كملامس تتحسّس الطريق.
في المستوى الأول، أو ما نوجزه بكلمتين: (مصير أمل)، سبعة فصول تمهيدية، سبع قصص، حتى تبدأ حكاية (راحيل)، أو ما نوجزه بكلمتين: (مصير يوسف)، فنرى السرد في المستوى الثاني، سريعاً في هرولة، يأخذ لبك، بإيقاعه الفوريّ المنساب كخرير يهبط فجأة من جبل، أو عاصف يجرفك إلى منبعه حتى لتفقد أنفاسك أحياناً من متابعته، لقاء اليهودية ومن ثم العلاقة الجسدانية وسط نقاشات (دينية) تسعى لأن تقنعك بضرورة التعايش بين الديانات الثلاث، بأدلة ومواثيق أحياناً، تبرّد من سياق النصّ، لكنه يضطرد بل يضطرم من وقع العلاقة الساخنة، فتتغاضى عن الجدل الذي لم يكن هذا وقته.
يستمر المستوى الثاني من السرد 13 فصلاً، من الثامن حتى العشرين، بدرجات طبعاً تتراوح بين الهادئ والمتسارع، بل اللاهث أحياناً، حتى يقول (وكان هذا آخر عهدي بكم). من هنا، يبدأ المستوى الثالث من السرد، أو ما نوجزه بكلمتين (هوامش الرواية)، ليعود إلى هدوئه الرصين، عبر ست قصص: حكاية عرنوس، حكاية الشيخ ضباب، حكاية الصفقة، حكاية القطار، حكاية الحلم، حكاية العودة إلى البيت. ستّ حكايات تضوّئ هوامش لم يشبعها السرد طيلة الرواية، وكان يمكن الاستغناء عنها، مع أن بعضها سرد شفيف، لكنه على غير إيقاع أو هوى الرواية.
أراد وليد علاء الدين استشفاف أجواء رآها قد تخفّف من وقع السرد أو جفاف بعض الشخوص، فخلق أجواء سردية مثيرة: صوفية أحياناً من خلال استدعاء عوالم مولانا جلال الدين الروميّ وكلماته، أو أساطير الأولياء (حكاية الشيخ ضباب، مثلاً)، أو أجواء الميثولوجيا الدينية (حكاية يوسف الصديق، ويعقوب وعيسو إلخ)، أو عالم المأثور الشعبيّ (حكاية الغولة وغيرها)، أو جوّ القصيد الشعريّ (على النمط الغربيّ، وهنا اليهوديّ تحديداً)، ومن هنا أغنى بعض المناطق، وسدّ ثمة ثغرات روحانية ضمن إيقاعات السرد الثلاث، فطارت الكلمات من بهاء إشراقاتها في مواضع كثيرة.
أرى، والعزم لله، أن الروائيّ من فرط حماسته في كتابة روايته الأولى، ودّ أن يستجمع عدة طرائق في النسق الروائيّ: فمرة أشبه بالتقليديّ، ومرة حداثيّ بتيار اللاوعي، ومرة بانتهاكات ما بعد الحداثة، لكنه عموماً أخفق في إقناعي بضرورة التلاحم بين الديانات الثلاث، وإن كان هو نفسه لم يقتنع، ضمن المسار السرديّ، مما أودى به إلى جعل بطله (إن كان ثمة بطل هنا)، وهو يوسف، يتخبط في النهاية ولا يعود إلى ذاته، اغترب وضاع، فقد أكلَت الغولة (اليهودية هنا) روحه، فأنكر أمه، وحبيبته أمل، بل عالم أصحابه كلاً، بل مجتمعه وناسه، وصار شريداً بدَداً، لا يعي أين يصل ولا كيف يصل!