دائما ما أولى العنوان أهمية في قراءة النص الأدبي، لأن العنوان بطبيعته متعدد الدلالة، ثري يثير خيال القاري والناقد، أنه يتألق أمامنا من أول ما تراه العين ويستمر وجوده معنا بعد شراء الكتاب وأثناء القراءة وبعد القراءة لذلك التأمل في العنوان اساس باعتباره متنًا وليس هامشًا، لأن العنوان الجيد يتغلغل في نخاع النص، يسري في بدن السرد، للعنوان أهمية لدي القاري ولدي الكاتب الذي ينتزعه من داخل روح النص ويرفعه في وجوهنا كإشارة، كمدخل كبراعة، كفطنة، كعلامة لذلك عندما استلمت نسخة من رواية الكاتب المصري كرم صابر "موت الخيال" والصادرة عن دار صفصافة للنشر والتوزيع تساءلت ما دلالة العنوان؟
موضوعات مقترحة
وكيف يكون عنوان الرواية " موت الخيال" والرواية بنت الخيال، فلا وجود لواقع خام، أو خيال خام، ودور الكاتب هو عمل مزيج، كل حسب خبراته من الواقع والخيال لبناء عمل إبداعي، الخيال لا يموت سواء من خلال العمل الإبداعي، او من خلال الواقع، فليس هناك واقع في العمل الروائي فحتي الكاميرا لا تستطيع أن تنقل الواقع، ولكن الواقع من منظور العين الذي تحمل الكاميرا، فالسارد عندما ينقل حرفيا وصف لشارع لا يكتب واقع الشارع ولكن يكتب واقعًا أخر ساهم الخيال في صنعه، ولكن الذي أتصور ان الكاتب يقصده أن ما كان متصورًا أنه خيال أصبح واقعا معاشا نراه، في ظل هذا التغيرات المتتالية العنيفة في المجتمع، لذلك نستطيع أن نقول أنه تم زحزحة الخيال إلى منطقة أخري ليحتل الواقع المساحة الأكبر وما دام الواقع احتل المساحة فليشحب الحلم والجمال وتسود الغلظة والكآبة تقول: وعم نوع من العماء والظلمة والعدمية ولا اعتقد من خلال قراءة الرواية أن العالم الذي تحيا فيه الشخوص وصل إلى هذه المنطقة، فهناك صراع حدي عنيف بين الشخوص والذي ينفى فكرة الموت فالصراع أبن الحياة وفعل مقاوم للموت، العنوان ملتبس ومحير ولكن في عالم روائي يحتشد فيه بكم هائل من الرموز والاحداث والوقائع، والشخوص والتقنيات السردية، يصعب فيه القبض على شيء، أو تعيين شيء ويظل كل شيئًا مبهمًا وملغزًا ويحتاج دائما إلى قراءات حتي نجد القطة في الغرفة المظلمة.
ثانيا : في مفتتح الرواية يلفت نظرنا الروائي صابر كرم إلى شيء يعتبره مهمًا في فهم الرواية وهو أن الرواية تدور حول عالم التوحد والمتوحدين، "في عالم التوحد معايير مختلفة لترتيب الأحداث وماهية الأماكن، تتبدل حروف اللغة وتعزف موسيقي هائجة، لم تتعود على سماعها، وتوشي اللوحات بألوان واحاسيس جديدة لم يشعر بها قلبك" ص 7
والسؤال هل هذا المفتتح مهم في فهم الرواية، برأيي أن الرواية لم تكن في حاجة بالمطلق لهذه الإشارة، لأن هذه الاشارة نوع من الوصاية على القارئ، أو نوع من توجيه القاري، إلى اتجاه معين وهذا برأيي ضد الفن وضد القراءة، كما اتصورها الذي تعتمد أساسا على الحدس والخيال والخبرات المعرفية، ولم يكتفى الكاتب بذلك بل جاء في بداية الصفحة 23 من أول سطر ليضيف إشارة اخري وكأنه مصمم على التوجيه والإرشاد.
لا أنت تكذب علينا، لم يصارعك أحد أو يهتم بوجودك، كل ما جري...
لا تسألني اليوم عن الرحمة فهم جميعا لن يتذكروك إلا ليضحكوا على كم الكذب الذي أبدعه فمك...
يا الله، أهذه المدن التي زرتها والأحلام التي رأيتها والبيوت التي عشت بين جدرانها ونمت تحت أسقفها، والبشر المرعوبون الذين أخفوني.. كانت خيالات. أين الحقيقية إذن ؟ ومن هؤلاء.
وكان القارئ ساذج كي لا يعلم أن ما يدور في عقل الراوي ليس إلا مجرد هذيان وكوابيس وأحلام سوداء وخيالات عقل مشوش سودوي، قاتم يري الدنيا من خرم أسود.
ثم هل الراوي متوحد هل سمات وصوت الراوي يوحي بالتوحد برايي المتواضع أن لا السمات الشخصية ولا الصوت، واقول الصوت وليس الاصوات، لأن الملامح النفسية والادائية للراوي واحدة لم تتغير، فالمتوحد إنسان في الغالب لا يظهر على وجه انفعال ولا نري مشاعر واضحة لديه لأنه يجد صعوبة في التعبير عن الفرح، والحزن، والحب، والكره، لذلك يظهر وجهه دائما مصمتًا، مع تغير الحالات، وحتي عندما يصاب بالغضب يعبر عن الغضب لدية بإيذاء نفسة هو ولا يوجه غضبة ضد أخرين، أم راوينا لدية رؤية سوداوية للحياة ولنفسة كما أن لدية ميولًا سادية ومازوشية مزدوجة،
- أسمعهم الآن وهم يصرخون داخل قدر ويقولون " أنقذنا ياأبي, أنقذنا ياأخي، أنقذنا ياصديقي،ص 14 كما أنه يستدعي كل صنوف التعذيب من قطع الخصية للضرب للسحل لتقبيل الحذاء لكي يدخل البيت، يعذب ويتعذب سواء من محيطة الاسري، أو من المحيط الاجتماعي الواسع، يشعر بالاضطهاد والحظ العاثر الذي أوقعه في زوجة عنيفة.
إذن لدينا راوي يستبطن من خلاله ذات مشوه بائسة مقموعة، شريرة ولكنها أضعف من ان تمارس الشر، تلتقط تشوهات المجتمع ومثالبهم وشرورهم فالكل ممثل في هذه الرواية بما فيهم المرضي بدأ التوحد فليس هناك في الرواية شخصية سوية، الكل مشوه لذك نري الزنا، زنا المحارم، فقدان المشاعر والرغبة في الإيزاء والسيطرة والقتل سواء كانت الشخوص ذكر أو أنثي فالكل عدميين لا تحفل بشيء، أو قيمة. ومن خلف هذا العنف يأتي دور السلطة/ النظام البوليس العنيف والذي لم يظهر إلا في بداية الرواية، وان كان وجوده ضاغط في معظم الرواية ليقوم بالقتل الجماعي لأفراد لا نعرف هويتهم وكانه يقول: لا مهم للهوية فالكل مذنب والكل يستحق القتل في عرف الشرطة، كما ان مشهد القتل يذكرنا بمشهد واضح من فيلم" الفار الطباخ"ففى الفيلم تطلق السيدة صاحبة البيت ببندقيتها النار في دائرة ليسقط كم هائل من الفئران، وكانه يقول اننا في عرف النظام مجرد فئران لا اكثر، ثم هناك أيضا شخصية شٌريك، في الرواية، وشٌريك في رسوم متحركة فاز بجائزة الأوسكار، لأفضل فيلم صور متحركة للعام 2001. وكانه يقول أن هذا ليس واقعا، أنه فيلم مجرد فيلم وكان هذا الإنكار سيغير من الأمر، هذا الذهول أمام العالم المظلم الذي تحفل المساحة الباقية في الرواية للجماعة الشعبية او الشبيحة لتقوم بالدور نيابة عن النظام من خلال حروب ثآريه
" يحكون بنشوة عن قيام "صاصا" بذبح رومي " أبن ابو هندية " فىطابونته لرفضه تسخين خبزه البايت في الليلة ذاتها حاصرت عائلة " أبو هندية" منزل " صاصا" وحرقت أمه بملابسها وخرمت جسدها بالرصاص ولكن أهله وجيرانه قرروا الثأر وهم يتجهون الآن بجثتها إلى منزل " أبو هندية " وطابونته.
لم يمتثلوا لصوت العقل وتجاهلوا لحية " وسيم" وتوسلات القهوجي وتهديدات " خرية" وعشيقته "اصطفاف " وهاجموا منزل الطابونجي ومزقوا جسد أبنه وحرقوا أثاثة واستأجروا اللودر وهدموا طابونته وعجنوا بلاطها المدشوش في دقيقها "
يدور عالم الرواية في مكان ضيق محدود، الغرف السلالم، الفرن، الخرابة، الشارع كمكان للقتل رغم كل هذه السوداوية التي تحفل بها الرواية، ولكن هناك دائما وأبدا نقطة ضوء، تأتي مع الفجر، مع بهجة يصنعه الراوي من الخيال، صديق يطبطب على ظهر الرواي، المطر، والحلم بالصعود، كما أن هناك نقطة ضوء في استخدام الكاتب للغة بديعة، معبرة عن العالم الكابوسي للرواية لذلك كانت لغة مقتضبة لا تحفل بالتزيين ورغم ذلك شفافة.