Close ad

مصطفى نصر والتأريخ لـ"يهود الإسكندرية"

26-8-2016 | 11:52
مصطفى نصر والتأريخ لـيهود الإسكندريةيهود الإسكندرية
أحمد فضل شبلول
هذه رواية من الروايات الكبيرة، ليس في عدد صفحاتها (البالغة 551 صفحة) فحسب، وليس لأنها تتناول عدة أجيال يهودية عاشت في الإسكندرية فقط..
موضوعات مقترحة


لكن بسبب الموضوع الذي تتناوله، وهو حياة اليهود بعامة، ومحاولة تغلغل الكاتب داخل الأوساط اليهودية والكشف عن عاداتها وتقاليدها وطريقة تفكيرها واتجاهاتها في عقود عدة، محاولا خلخلة الصورة النمطية السائدة عن اليهود المصريين، ولكنه لا ينجح في ذلك لأن اليهود هم اليهود، في جشعهم وتملقهم وأكاذيبهم وكراهية الآخر والمتاجرة بالجنس واستخدام المرأة للوصول إلى أغراضهم. وبذلك يثبِّت السارد تلك الصورة النمطية أكثر وأكثر.

تبدأ الرواية بمرض الوالي سعيد العائد من أوروبا في أواخر عام 1862 محمولاً على محفة بسبب الآلام الشديدة في جسده كله، خلّفت روائح كريهة جدا تنبعث من هذا الجسد، فلم يستطع أحد الدخول إلى حجرته في قصره بالقباري في الإسكندرية، سواء كان رئيس وزرائه (الكتخدا) أو زوجته وأولاده أو الأطباء الذين يعالجونه.

الوحيد في مصر كلها الذي استطاع الدخول عليه ودهن جسمه بالكريمات والمرطبات ودهانات العلاج هو جون اليهودي حلاق الصحة المصاب بلحمية في الأنف تجعل حديثه صعبًا، وغير قادر على الشم.

ما جعل الخديو سعيد يرتاح في نومه فلا يصرخ ولا يتألم، وينام نومًا طبيعيًا لساعات طوال، فحدثت الألفة بينه وبين جون، وعليه يأمر والي مصر بمنح إقطاعية أو أبعادية لجون بمنطقة الطابية على حدود الإسكندرية رشيد.

بطبيعة الحال لم يقف يهود الإسكندرية مكتوفي الأيدي أمام هذه العطية الضخمة أو العظيمة من آلاف الأفدنة الصالحة للزراعة التي يمتلكها جون بمفرده، فكانت المؤمرات التي لم يتدخل فيها أي سكندري آخر، ولكنها مؤامرات بين اليهود أنفسهم، لمحاولة سلب جون غير المدرك لأهمية ما امتلكه وما معه من ثروات، تلك الأراضي الشاسعة.

البعض حلم بأن تكون تلك الأبعادية مكانًا يجمع يهود العالم، والبعض حلم بأن يقيم مشاريع استثمارية ومصانع ومساكن وخلق مجتمع يهودي جديد في تلك البقعة.

هكذا أخذ كل يهودي يسكن حارة اليهود في الإسكندرية يحلم بكيفية استغلال أرض جون، كما حلم أيضًا الأثرياء من يهود الإسكندرية، بل يهود مصر كلهم، بتلك الأرض، ما خلق صراعًا حادًا بين شخصيات كان لها دور في وصول جون إلى قصر الوالي بالقباري، مثل عامير صاحب فكرة توزيع الأرض على فقراء اليهود، وزاكن رجل الأعمال اليهودي الذي لا يتورع في استخدام كل الأساليب غير النظيفة للوصول إلى هدفه.

ينتقل بعض اليهود من الإسكندرية للعيش في الأبعادية التي أُطلق عليها عزبة جون، لإقامة مجتمع يهودي جديد هناك، والبعض الآخر تمسك ببقائه بجوار سوق السمك وميدان القناصل، أو في حارة اليهود بالمنشية. ولكن لم يزل جون بامتلاكه لتلك الأرض الشاسعة عقبة أمام بعض اليهود من أمثال زاكن وبنيامين وزوجته ملاذ الذي عنون الجزء الأول من الرواية باسمها.

وكان الحل هو مقتل جون الذي لا يعي، وإقامة ضريح له في الأبعادية يصبح مزارًا عالميًا لليهود فيما بعد.

تتوالى أحداث الرواية النهر أو رواية الأجيال اليهودية في تلك البقعة من العالم، وتظهر شخصية السادات في الجزء الثاني "وصال" في فصل بعنوان "الرجل الغريب": "دق الرجل الأسمر ذو الطاقية الصوفية باب بيت نظيرة خرجت له وصال، تابعته في حذر، فاليهود يتحدثون كثيرا عن عملاء هتلر الذين يتجمعون في مصر، استعدادًا للسيطرة عليها، بعد الانتصارات الكثيرة التي حققتها فرقة البانزر بقيادة روميل".

لقد لجأ السادات ليهود تلك البقعة في الإسكندرية ليستعين بمنير أحد تجار اليهود الذين يصنعون البمب وصواريخ الأطفال، ثم القنابل اليدوية في أحد المعامل بالقرب من بيته، أخبره السادات أنه يعمل مع الثوار ويريد أن يصنع لهم قنابل يدوية يستخدمونها ضد الإنجليز.

في بيت منير التقى السادات بالطفلة الجوهرة، ابنة منير، وأهداها ساعته الكبيرة القديمة التي تدق من وقت لآخر، وعلمها ألعابا كثيرة ستزهو وتفتخر بها أمام صديقيها كمال وعايدة.

وسوف يكون للسادات دور بارز في الجزء الثالث من الرواية "جوهرة"، فبعد اختياره رئيسًا للجمهورية بعد وفاة جمال عبدالناصر، تذكرت جوهرة التي كبرت وتصادمت مع كمال وعايدة بعد أن تزوجا، هذا الوجه الأسمر الذي اختبأ في بيتهم بالإسكندرية، وأهداها ساعته، فأرسلت له رسالة تذكره بتلك الطفلة، ويزورها السادات في بيت كمال الذي هجره بزواجه من عايدة، وبعد وفاة أهلها في الحريق الذي شبّ بالمنطقة بعد انفجار معمل الأسلحة والقنابل وموت الكثيرين.

زارها السادات وخلع عليها الملايين مع الحماية التي استغلتها أسوأ استغلال ممكن، فصارت من أهم سيدات الأعمال بالمنطقة، وصارت من أصحاب المصانع والأراضي، وصارت تلعب بعقول الرجال، وهدفها الوصول إلى كمال الذي رفض الزواج منها وفضل عايدة ابنة الباشا عليها.

الآن هي أهم من الباشا وكل أثرياء الإسكندرية. هي اليهودية الوحيدة بعد أن هاجر من هاجر إلى إسرائيل، ومات من مات. ولكنها تنفث سمومها، وتدخل في تجارة المخدرات والعقارات، وتحاول استعادة قبر جون لتحويله إلى مزار سياحي مقدس لكل يهود العالم.

جاء على غلاف الرواية الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب: "هذه الرواية لا تؤرخ ليهود الإسكندرية، بقدر ما تصنع أسطورة فنية ترصد كيفية تحول (جون) حلاق الصحة اليهودي الأبله إلى (وليّ) من أولياء الله الصالحين، بعد أن يمنحه الوالي (أبعادية) تكون سببا في قتله، ثم يقيم له قاتلوه ضريحاً، ويصبح له (مولد) يحتفل به اليهود كل عام.

ويمزج الكاتب ببراعة ووعي بين الواقع والخيال، فيُضفي على شخصيات واقعية شهيرة – سياسية وفنية – لمسات من الخيال الخلاق بينما ينفخ في شخصيات خيالية من روح الإبداع، فتتجسد على الورق حتى يكاد القارئ يراها ويلمسها".

حقا إنها رواية كبيرة ماتعة، تتناول الكثير مما هو مسكوت عنه، وتخوض منطقة تاريخية وواقعية (زمانيًا ومكانياً) لم يعالجها روائي من قبل. تقف على الكثير من التفاصيل والعلاقات التي يفاجئنا بها الكاتب، وندهش كيف عرف كل هذا، وكيف رصد كل ذلك، وكيف احتشد كل هذا الاحتشاد ليقدم لنا "يهود الإسكندرية" التي تستحق كل الإشادة لتميزها وتفردها.
كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة