يخدعك عبد القادر عقيل بكتابه صغير الحجم "اثنا عشر ذئبًا على مائدتى"، الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت ووزارة الإعلام بمملكة البحرين عام 2005.
موضوعات مقترحة
الكتاب لا يتجاوز 72 صفحة من القطع المتوسط يغريك لتنهيه فى جلسة واحدة، وعنوانه الشيق يوحى لك بقصص مغامرات ورعب مسلية، لكنك تقف قليلا أمام العنوان فتنفتح أمامك آفاق واسعة للتأويل، ثم تقرأ الإهداء، وتقف أمام المقتطف الذى وضعه الكاتب بدون عنوان من كلمات قطب العارفين وصاحب الأسرار والمعانى الشيخ عبد القادر الجيلانى، فتصبح الآفاق أمامك أكثر اتساعا وعمقا قبل أن تقرأ كلمة واحدة فى قصص الكتاب ذاتها.
فهذا كتاب لا يمكن أن تقرأه فى جلسة واحدة، ولن تستطيع أن تكتفى بقراءته لمرة واحدة، وهذه الصفحات التى بين يديك ليست هى كل الكتاب!
ينتمى كتاب عبد القادر عقيل "اثنا عشر ذئبا على مائدتى" إلى ما أسميه بالكتاب الشفرة، فالنص الذى بين يدى القارئ هو النص الظاهر، لكنّ هناك نصا آخر خفيا أو تحتيا لا تكتمل القراءة بدون العثور عليه، ولا يتم العثور على النص التحتى إلا من خلال فك شفرات النص الظاهر، هذا النص التحتى هو الركيزة والأساس الذى تم عليه بناء النص الظاهر، والتوصل إليه هو الجهد الذى يطلبه الكاتب من قارئه ليصلا معا إلى النص الكامل، وهو هنا يشبه المثل الشهير لجبل الجليد الذى لا تظهر إلا قمته لكن معظمه مختف تحت سطح الماء، والقارئ فى تعامله مع مثل هذه النصوص يخوض مغامرة بقدر ما هى شيقة وممتعة بقدر ما هى متعبة وغير مأمونة العواقب، وقد يكون القارئ هنا تايتنك غير بصيرة فتصطدم بالجزء الخفى من جبل الجليد فيتحطم عليه النصان الظاهر والتحتى معا، وإما أن يكون قبطانا ماهرا وغواصا أكثر مهارة فيجد النص التحتى أو يجد بعضه حسب قدراته واجتهاده، ليكتمل لديه نص قصصى ينتمى إلى القارئ بقدر ما ينتمى إلى الكاتب ذاته.
ويزيد عبد القادر عقيل متعة/صعوبة التعامل مع نصه الظاهر فيجعل من نصه التحتى ليس فقط ترجمة إشارات النص الظاهر، بل يجعل نصه الخفى هو تاريخ الإنسانية بطوله وبدوراته الحضارية المتعاقبة، وتاريخ الأديان بعمقه وتجلياته الروحية الشفيفة، فى تلاقى كل ذلك مع اليومى الملموس.
للوهلة الأولى يحيلك العنوان إلى العشاء الأخير للسيد المسيح، لكن هذه الإحالة لا تبدو بسيطة، بل تفجر إشكاليات عديدة، فقد أولم السيد المسيح لحوارييه وليمتين، وليمة فصح اليهود وكان على مائدته اثنا عشر حواريا، وبعد ساعات كانت وليمة العشاء الأخير وكان على المائدة أحد عشر حواريا بعد ذهاب يهوذا ليشى به. والمشكلة فى هذه الإحالة أن الناجين من الطوفان فى قصة (اثنا عشر ذئبا على مائدتى) هم اثنا عشر فردا من دون الأستاذ عيسى، وعدد مقاعد المائدة فى الفيلا الغامضة فى قصة (أكاد لا أشك ولا أكاد أوقن) هو اثنا عشر مقعدا، فلو كانت الإحالة إلى الوليمة الأولى فأين المسيح؟ أين المرشد الروحى المرتبط بالسماء، وإذا كانت الإحالة إلى العشاء الأخير فكيف يكون المسيح نفسه واحدا من الذئاب؟. إن الإحالة هنا ليست كاملة لكنها ترتبط بالمغايرة، فالمائدة موجودة بمقاعدها الاثنا عشر، والذئاب بعدد المقاعد موجودون، لكن المسيح/ صاحب المائدة نفسه غير موجود، إذ نزعت الروح من هذه الحياة، ولم تعد مرتبطة بالسماء، تُرك البشر لشهواتهم ورغباتهم الشريرة فأصبح كل منهم ذئب الآخر.
إنك لن تدرك حقيقة النص التحتى هنا إذا ظللت تتعامل مع النص الظاهر بعينيك المجردتين فقط، فنصك الحقيقى يحتاج إلى عيون العقل أولا، ثم عيون البصيرة، لترى ما لا يمكن أن تدركه عيون النظر العادية، بل إنك إذا أغلقت هذه العيون العادية بعد أن تكون قد انتهيت من استيعاب نص الكاتب الظاهر لانفتحت أمامك بشكل أفضل السبل لترى نصك التحتى الذى يخصك أنت أيها القارئ، وهذا هو المعنى المهم الذى يشير إليه الإهداء، فالإهداء إلى (روان) التى قد تكون شخصا بالذات متعينا يعرفه الكاتب، وقد تكون الحقيقة المطلقة أو جنة المعرفة، فى جدلية بين المتعين الظاهر والخفى غير الملموس لكنه ربما يكون أكثر تحققا (كن أعمى عن مشاهدة أحد سواها، وأصما عن سماع كلام غيرها، وجاهلا عن عالم دون عالمها. يا صاحب العينين، أغمض عينيك، عن العالم، وأهل العالم كله، وافتح عينيك، عليها، وعلى جمالها المقدس) ص5.
إن اختيار الكاتب لمقطع من ثلاث صفحات من السيرة الذاتية لعبد القادر الجيلانى لا يضع له عنوانا وكأنه يريد من القارئ أن يضع هو العنوان الذى يريده لأن هذا العنوان سيكون أول علامات الطريق إلى نص القارئ التحتى، لم يكن اختيار هذا النص عشوائيا، إنه مجاهدات ومعاناة الجيلانى مع نفسه ومع الناس للوصول إلى الحقيقة، فالحياة بالنسبة للمتصوف أوهام ظاهرة ورسوم غير حقيقية، والحقيقة هى علم الباطن الذى لا يصل إليه المرء إلا بكشف من الله، لكن هذا الكشف لا يتحقق مجانيا، إنه يحتاج إلى جهد قد تتفتت دونه الجبال الرواسى، يقول الجيلانى: (قاسيت الأهوال فى بدايتى، فما تركت هولا إلا ركبته... وطرقتنى الأهوال حتى حسبوا أننى مت، وجاءوا بالكفن، وجعلونى على المغتسل. ثم سرى عنى وقمت... ثم بعد ذلك طرقتنى الأهوال، فكنت أتمنى من يكشفها لى... ثم عرفته بعد، وكشف لى جميع ما كان يشكل علىّ... كنت أُؤمر وأُنهى فى النوم واليقظة، وكان يغلب علىّ الكلام، ويزدحم فى قلبى إن لم أتكلم به، حتى أكاد أختنق ولا أقدر أسكت) ص7و8.
ثم يخلص من رحلته إلى نتيجة (أتمنى أن أكون فى الصحارى والبرارى كما كنت فى الأول، لا أرى الخلق ولا يرونى) ص9. ففى صحبة الخلق بُعد عن إدراك الحق، والخلق ذئاب بعضهم بعضا، وفى الوحدة والخلاء يجد الإنسان نصه الحقيقى ويكتشف ما يخصه مما هو مطمور تحت ركام الظاهر.
تتكون المجموعة القصصية من قصتين منفصلتين لكن بينهما وشائج كثيرة تجعل الكاتب محقا فى نشرهما معا، فبعض معانى إحداهما تصل إليها عن طريق قراءة القصة الأخرى، كما أن قراءتهما معا يمنح القارئ معنً كليا لا يجده بقراءة قصة منهما دون الأخرى أو من دون الربط بينهما.
الذئاب والدورات الحضارية
القصة الأولى (اثنا عشر ذئبا على مائدتى) وحدوتة القصة بسيطة للغاية، رحلة مدرسية إلى منطقة خلاء بين الجبال، يقود الرحلة الأستاذ عيسى ومعه أربعون طالبا، ينصبون خيمتهم بين الجبال. هذا هو الجزء الأكيد والواضح من القصة أما باقى القصة فيفسره عنوان القصة الثانية فى المجموعة (أكاد لا أشك ولا أكاد أوقن) فالقارئ لا يعرف هل تحدث هذه الأحداث فعلا أم أنها أحلام يقظة أم هلوسة، ويستخدم الكاتب تقنيات عديدة ليجعل القارئ فى هذه الحالة البين بين، بين الشك وبين اليقين، أهمها التكرار والحلم داخل الحلم.
يقدم الكاتب إشارات قوية إلى القصة القديمة، فاسم القائد الفعلى والروحى للرحلة هو (عيسى) وهو ولد بفلسطين وبيت لحم، وصفاته تجعله إنسانا نبيلا ومحبوبا للغاية، وهدف الرحلة التى يقود فيها الطلاب هو الكشف والمعرفة.
ويطرح الكاتب أرقاما مهمة ذات معانٍ خاصة، فعدد الطلاب أربعون، سن النبوة من ناحية، وعدد اللصوص الذين يقابلهم على بابا فى ألف ليلة وليلة من ناحية أخرى، فهو رقم مهم فى الوجدان الدينى والمخيال الشعبى معا. ورقم اثنا عشر الذى هو عنوان القصة، وهو عدد من لجأوا إلى الكهف ونجوا من الطوفان فيها، وهو العدد الذى وضحنا علاقته بالعشاء الأخير، وستتضح علاقته فى القصة الثانية بقوم موسى الذين تفجرت لهم الأعين اثنتا عشرة عينا.
القصة تدور فى زمن السبعينات، حيث يشير السارد إلى أن الطلاب يغنون (أغنية عبد الحليم حافظ الجديدة زى الهوا) وهذه الأغنية غناها عبد الحليم سنة 1970، فتاريخ حدوث القصة يبتعد عن تاريخ نشرها خمسة وثلاثون عاما، ليمهد القارئ نفسيا أن هذا تاريخ قديم، وأنه زمن السبعينات العجيب الذى يمكن أن يحدث فيه أى شئ، والأغنية نفسها التى تحدد الزمن فيها بعض العجائبية (ماسك الهوا بإيديه.. زى الهوا يا حبيبى).
تتراوح القصة بين السرد الواقعى فى بدايتها، والسرد العجائبى فيما بعد ذلك بداية من تغير أحوال الطقس أثناء نصب الخيمة.
يمهد الكاتب للأحداث العجائبية بتعريف واقعى بالأشخاص الفاعلين فى قصته، بدأ بالأستاذ عيسى، ثم السارد نفسه الذى لم نعرف اسمه، مثله مثل سارد القصة الثانية الذى لم نعرف اسمه أيضا، فيفتح أبواب الاحتمالات أن يكون هو الكاتب ذاته أو هو القارئ نفسه، ومصطفى الفتى الجاد القيادى، وأحمد خليل المتشبه بالبنات فيدهن وجهه بالأحمر ويرقص مثلهن، وموسى فرج صاحب الكبسولات الأربعة العجيبة وصورة الحسناء عارية الصدر.
موسى فرج يخبر السارد ومصطفى أن الكبسولات الصغيرة صفراء اللون التى معه تأخذ من يتناولها إلى عالم الحلم فيجد نفسه مع الفتاة الحسناء عارية الصدر التى بالصورة، ولا يشير السارد إلى أنه تناول أى من هذه الحبوب، لكنه بالتأكيد أخذ يتناولها حبة وراء أخرى كما يؤكد تطور القصة.
لقد تغير الطقس بشكل مفاجئ وهم ينصبون الخيمة كما أمرهم الأستاذ عيسى، مطر غزير وبرق ورعود كأنه طوفان نوح، يأمرهم الأستاذ عيسى باللجوء إلى الكهف فى الجبل، يتدافعون إلى الكهف، فيسقط الأستاذ عيسى على وجهه فى الطين ولا ينقذه أحد، ولا ينجو سوى اثنا عشر طالبا، يبقون وحدهم بدون مرشدهم فيتحولون فورا إلى ذئاب، يقتل السارد ومصطفى موسى فرج ويدعوان المجموعة للتطهر بالدم فى طقس بدائى يقطعون موسى فى نهايته ويأكلونه.
يمثل هذا الحلم الكبير الذى يتكرر بعد أخذ كل كبسولة من الكبسولات الثلاث الأولى من لحظة نصب الخيمة، داخل هذا الحلم الكبير الذى يمثل عودة الإنسان إلى العصر البدائى يحلم السارد بأنه يعذب عذابات شديدة نيابة عن الجنس البشرى كله، لكنه يستمر فى الحياة برغم كل الأشياء الشنيعة التى يتعرض لها، فتضطر الحياة ممثلة فى التنين الذى كان يعذبه أن تهبه الحضارة. يصحو السارد من الحلم الذى داخل الحلم الكبير، يخرج من الكهف ليستكشف سر الصوت شديد الإزعاج الذى يسمعونه، يخرج فى رحلة هى خليط من خروج موسى للقاء ربه والعودة بالألواح المقدسة ورحلة المعراج فى السماوات السبع، ثم يعود إلى الكهف فلا يجد أحدا، ولكنه يحلم حلم يقظة بداخل الحلم الكبير، فى إشارة إلى الرسوم الوهمية على جدران كهف أفلاطون، فيجد حسناء صورة موسى فرج وقد أصبحت حواء الأولى التى تريد منه أن يمتلك معها الجنة بشرط أن يتخلص من الأفعى والطائر العملاق وشيطانة القفار، وعندما يرفض تأمر مخلوقات تابعة لها ذات أشكال غريبة بتعذيبه، يشتد به العذاب فيستيقظ ليجد نفسه فى الأوتوبيس الذى لم يزل فى طريقه.
فى هذا الحلم الكبير والحلمين بداخله يمر السارد/الإنسان بدورتين من دورات الحضارة الإنسانية، عصر الإنسان البدائى الهمجى، وعصر الأديان.
عندما يأمر الأستاذ عيسى طلابه بنصب الخيمة يحاول السارد إقناعه بأن البقاء فى هذ المكان خطر لكنه لا يبالى به، فتتكرر مقدمات الحلم الكبير مرة ثانية، وبداخله يرى السارد حلما هو لقاء وحى السماء النوراني مع السارد والذى يطلب منه أن يهدى البشر ويخلصهم من أحمالهم الثقيلة، لكن الشيطان يتبعه اثنا عشر ذئبا يثقب جنب الملاك برمح برأسين، فيستيقظ السارد.
يتكرر الحلم الكبير مرة ثالثة بنفس مقدماته، لكن الناجين يظلون فى الكهف من دون مخلص والمطر الطوفان لا ينقطع، إنه فقدان الأمل فى المرحلة الحضارية الثالثة/العصر الحديث بعد أن فقد الإنسان إنسانيته على مدار تاريخه، هذا الحلم الكبير/تاريخ الإنسانية والأحلام التى داخل الحلم/الدورات الحضارية المتعاقبة تترك الباب مفتوحا على تأويلات متناقضة، لقد تكرر الحلم ثلاث مرات فى حين كان لدى موسى فرج أربع كبسولات، فهل الكبسولة الرابعة بها الأمل المفقود أم إن الكبسولة نفسها فقدت لسبب أو آخر فلا أمل على الإطلاق؟!
(أكاد لا أشك ولا أكاد أوقن) هى القصة الثانية، نصف أسمها الأول يمكن أن يعنى وكأنى على يقين، والنصف الثانى وكأنى أشك، وكأن الحالة التى بين الحدين هى تفسير حالة السارد فى القصة الأولى.
تتكون القصة من ثلاثة مقاطع مرقمة، المقطع رقم (1) هو حلم يعيد إنتاج عثور فرعون وزوجته على موسى الطفل فى صندوق بالنهر، الطفل الذى يرتعب منه فرعون ومن قومه الذين تفجرت لهم اثنتا عشرة عينا فهم بالنسبة لفرعون اثنا عشر ذئبا، يهرب فى مشاهد بها الكثير من أشكال المعابد والطقوس الفرعونية ليجد على المذبح طفلا برأس عجل وجسد طفل، يخاف منه ولا ينقذه.
المقطع رقم (2) واقعى جدا ويعتبر تمهيدا للمقطع رقم (3) أطول المقاطع الذى به كل الحكاية، فابن السارد يسأله عمن معه فى الصورة، وهو يتذكر أن من بالصورة هو صديقه القديم ذى الضحكة المجلجلة محمد العامر.
فى المقطع رقم (3) يحدثنا السارد عن البيت القديم الذى دهس صاحبه ابنه ذا السنوات الأربع بالسيارة حيث كان الطفل يختبئ خلف إطارات السيارة، يصاب الأب بالجنون، يُهدم البيت وتبنى مكانه فيلا فخمة من دورين يسكنها أناس جدد. السارد فى السادسة عشرة من عمره، زمن الأحداث هو السبعينات نفس زمن أحداث القصة الأولى، يسكن الفيلا شاب جميل جدا ومهذب وأخته جميلة ومتحررة، يدعو الشاب السارد ومحمد العامر لزيارتهما فى الفيلا فيحقق أمنية السارد بالتعامل مع الفتاة عن قرب، والد الفتى والفتاة يبدو وكأنه تمثال من جليد ووالدتهما عدائية تجاه السارد. السارد من مواليد برج الجوزاء، يكتب القصص، يهديه الشاب رواية (البومة العمياء) لصادق هدايت هدية من الوالد، وكأن عنوان الرواية إشارة إلى حالة العمى النفسى التى يعيشها السارد فلا يرى الشر الكامن خلف الفتى والفتاة الجميلين، يدعو الفتى السارد إلى السينما، لا تحب الفتاة أن تكمل الفيلم، فيوصلها السارد إلى منزلها، ولا يستطيع انتهاز الفرصة لمصارحتها بمشاعره، بل يتظاهر أمامها أنه يدخن فتغضب منه، يحلم الفتى بامرأة حبلى على رأسها تاج من اثنى عشر نجما، وكأن الرقم يطارده كما طارد سارد القصة الأولى، يلاحظ محمد العامر أن ستائر نافذة الفيلا يدفعها الهواء للخارج وليس للداخل فلا يعير السارد تلك الظاهرة الغريبة انتباها.
يخترع الفتى لعبة الملك للتسلية (وهى لعبة يلعبها أربعة لاعبين، كل منهم يرمى علبة كبريت صغيرة عليها صورة مزهرية خضراء، فإن وقعت العلبة على أعلى الصورة يصبح اللاعب ملكا، وإن وقعت على طرف الصورة يصبح وزيرا، وعلى يسار الصورة يصبح شرطيا، وإن وقعت أسفل الصورة يصبح اللاعب مجرما عليه أن ينفذ أوامر الملك دون تردد أو رفض) ص59. تدخل اللعبة مرحلة خطيرة بطلب الفتاة من أخيها أن يحرق بيت عجوز فقير اسمه مبارك فيحرقه، يفكر السارد فى التوقف عن اللعبة وقطع علاقته بهما لكنه لا يستطيع، فى اللعبة يطلب الفتى من السارد أن يقول لصفية القبيحة أحبك، لكنه لا يستطيع لأنها طيبة جدا ولا يريد أن يجرحها، فيسامحه الفتى/الملك لمخالفته الأوامر هذه المرة، لكن الفتاة تغضب منه عندما يقول لها بعناد: (نعم، لم يسبق لى أن قلت لفتاة أننى أحبها، لأنه ليست هناك فتاة فى العالم تستحق أن أحبها)ص68.
محمد العامر يتنبأ بموته ويموت فى اليوم التالى فى حادث تصادم. فيقرر السارد الابتعاد عن الفتى والفتاة ولعبتهم الملعونة نهائيا (رأيت صفية واقفة أمامى مبللة تماما. كانت تبدو فى المطر قبيحة بشكل رائع. قالت لى وهى تشدنى من ذراعى:"قم أيها الفتى الطيب، مكانك ليس هنا" قمت وقد قررت أن أضع حدا لكل شئ، وآليت على نفسى أن أبدأ حياتى من جديد). إن هذا القرار بالضبط هو ما يجب أن يفعله أبطال القصة الأولى ليغيروا مصيرهم بالتخلص من حياة عدم الفهم، حياة البين بين على طرفى الحبل المشدود؛ الشك غير الكامل واليقين غير النهائى، والذئاب الذين يتردد ذكرهم فى القصة الثانية أكثر من القصة الأولى هم الرابط الأساسى بين القصتين، هم الشر المطلق، لذا على أبطال القصتين تنفيذ القرار الذى توصل إليه بطل القصة الثانية للتخلص منهم.
يلعب الكاتب بأسماء الأبطال فى القصص لعبة ممتعة، فإذا كانت غالبية القصة الأولى حلمية أو كابوسية بمعنى أدق، فإن الكاتب يعين الأشخاص بأسمائهم، لكن القصة الثانية التى يغلب عليها السرد الواقعى لا تقدم سوى اسم صفية والعجوز مبارك ومحمد العامر، أما الأبطال فيقدمون بصفاتهم ليكونوا نماذج مطلقة، وهو عكس المتوقع، إذ أن المظنون أن القصة الحلمية الضبابية لا تكون فيها تحديدات للأشخاص والعكس بالعكس، لكن هذا بالذات هو ما يربط بين القصتين ويجعل من كل منهما امتدادا للأخرى، لأن كلا منهما تتحدث عن نفس حالات الضياع واللا يقين والوقوع فى براثن اللا إنسانية، فتجد التحديد والتعيين وسط الضباب الحلمى، وتجدد غير المحدد وسط شديد التحديد، وإن كان الكاتب يتماهى مع السارد فى القصة الثانية فكأنه يشير إلى أن الجميع معا فى تلك البوتقة الجهنمية بما فيهم الكاتب والقارئ أيضا وليس أشخاص القصص فقط، فيضمن توريط القارئ فى النص بشكل تام.
ويعد لجوء الكاتب فى القصة الثانية إلى السرد الواقعى وإلى الإسهاب فى تفاصيل وصفية لا تدفع أحداث القصة للأمام بقدر ما توقفها وتثبت لحظتها الحكائية، حلا تقنيا يقترحه الكاتب باعتبار هذه الأشياء الموصوفة هى الشئ الوحيد الملموس الذى يمكن التيقن منه وسط كل هذه الفوضى العبثية من اللا يقين وغير المفهوم من الأفكار والمشاعر والصور والأحلام المختلطة المبهمة.
لقد وجدت نصى التحتى فى تعاقب الدورات الحضارية هبوطا بمستوى إنسانية الإنسان الذى بدأ بالغاب والهمجية ويعود إليها وإن تغيرت الأزياء والصيغ، ووجدت نصى التحتى فى التماهى مع القصص الكبرى المؤسِسة فى الديانات السماوية.. لكنك أنت/ صديقى القارئ تستطيع أن تجد نصا آخر، فشفرات كتاب عبد القادر عقيل (اثنا عشر ذئبا على مائدتى) قزحية الألوان بحيث يستطيع كل منا أن يتماس مع اللون الذى يناسبه ليفك به الشفرة حسبما يفهمها.