Close ad

الغنائي والسردي والدرامي (قراءة في سردية القصيدة)

11-8-2016 | 21:02
الغنائي والسردي والدرامي قراءة في سردية القصيدةأرشيفية
عادل بدر
إن تصور الشاعرة نازك الملائكة لبنية أو هيكل القصيدة وتقسيمها لهذه البنية على أساس العنصر الزمني، فضلاً عن الحديث عن ترتيب سببي أو عقدة يتعارض مع تصور فريق آخر من الشكلانيين، هو فريق الشكلانيين الروس.
موضوعات مقترحة


فقد أشار توماشفسكي في مقالة "نظرية الأغراض" إلى أن العناصر الغرضية في الأدب، تتحقق على وفق نمطين أساسيين: "فإما أن تخضع لمبدأ السببية فتراعي نظاماً وقتياً معيناً... وإما أن تعرض دون اعتبار زمني- أي في شكل تتابع لا يراعي أية سببية داخلية.

ففي الحالة الأولى، نكون بإزاء أعمال "ذات مبنى" (قصة قصيرة، رواية، قصيدة ملحمية) ونكون في الثانية، بصدد أعمال لا مبنى لها، أي وصفية "شعر وصفي وتعليمي، غنائي، كتابات رحلات".

ولقد امتلك الشعر الحداثي خصوصيته في التجربة الشعرية العربية في الربع الأخير من القرن العشرين، وذلك لعنف السياق الخارجي والداخلي الذي عاشه الإنسان المصري في حرب هزت الكثير من القيم، وكذلك العنف الذي طال الحياة الداخلية في بدء السبعينيات؛ مما أخضع كلّ شيء لتحولات كبرى، وكان من الطبيعي أن يكون الفن والشعر في طليعتها حيث راح الشاعر يبحث عن ذلك الشكل الشعري القادر على استيعاب تجربة خاصة؛ فكان على القصيدة الجيدة أن "تتسلح بطاقاتها الإبداعية كلها من أجل التعبير عن الداخل في مواجهة الخارج، لذلك وجدناها وقد تفاعل فيها اليومي بالذهني، والبصري بالسمعي، والتشكيلي بالشعري، والسردي بالمشهدي، والنثري بالوزني".

فاعتماد السرد في حركة الشعر الحداثي يدعم ما يفرزه الذهن من تركيبات بنائية ؛ إذ بدونه تتولد في كثير من الأحيان تفكيكية في عرض الصورة، فيبدو الشعر كما لو كان هذيانا لا طائل من قراءته واستدراك شفراته ؛ ومن ثم لا يمكن الخروج بمدلولات ذات وقع مؤثِّر ، وفاعل في الذائقة ، وغدا السرد بنية مطلوبة ؛ لكي يكتسب النص الشعري تأثيره الفاعل ،ويتداخل السردي بالشعر في أجمل صورة ، وأفضل تركيب.

وفضلاً عن هذا فإن "رومان ياكبسون" قد أوضح أن بنية القصيدة هي بنية فضائية وليست زمنية، وإن كل طبقات الملفوظ فيها "بدءًا من الفونيم وسماته التمييزية، وصولاً إلى المقولات النحوية والمجازات، يمكن أن تندرج في انتظام مركب حسب تناظر، أو تدرج أو تناقض أو تواز... مشكلة بمجموعها بنية فضائية حقيقية".

ويمكن لقصة أن تدل على حضور العلاقات المكانية حضورًا دائمًا في حين نجد بنية زمانية في الشعر، كما أوضح تودوروف، إلا أن العناصر المكونة والعلاقات التي تشكلها وتختلف في الخطاب الشعري عنها في الخطاب السردي.

وإذا ما أخذنا نظام التوازي مثلاً، وجدنا أن "الوحدات الدلالية ذات الطاقة المختلفة هي التي تنظم بالأساس البنيات المتوازية" على حين أن الوزن في الشعر هو الذي يفرض بنية التوازي: البنية التطريزية للبيت في عمومه، الوحدة النغمية وتكرار البيت والأجزاء المعروضة التي تكونه تقتضي من عناصر الدلالة النحوية والمعجمية توزيعًا متوازيًا ومع ذلك فإن قول ياكبسون هذا يتجاهل كلية قصيدة النثر أو القصيدة الدلالية- كما أسماها كوهن.

والسؤال الذي ينبض هنا الآن هو: أين تكمن الغنائية في قصيدة الفعل أو الحادثة التي تتضمن أحداثًا وشخصيات على نحو ما نرى في القصة والمسرحية، وأين يكمن الفرق بين الغنائي والسردي أو الدرامي؟

وهناك عدد من الباحثين يتفقون على أمر وهو أهمية المفردة والصورة أو اللغة في الشعر الغنائي. فالوظيفة الشعرية تتجلى في كون الكلمة تدرك بوصفها كلمة وليست مجرد بديل عن الشيء المسمى ولا كانبثاق للانفعال.

و"تتجلى في كون الكلمات وتركيبها ودلالتها وشكلها الخارجي والداخلي ليست مجرد إمارات مختلفة عن الواقع، بل لها وزنها الخاص وقيمتها الخاصة، وهي -أي الوظيفة الشعرية- قد توجد بقدر أو آخر في أي خطاب ومهما كان نوعه لكنها في الخطاب الشعري تصل درجة المهيمن الذي يحول بالضرورة العناصر الأخرى ويحدد معها سلوك المجموع، والشعر يكون أكثر سردية حين يبتعد عن تأكيد لغته الخاصة، ويكون أكثر غنائية حين يؤكد هذه اللغة الخاصة، وكذلك الصورة.

إن الشعرية الجديدة قد خَطَتْ خطوات مهمة نحو "القصيدة" بعد أن كان الشعر، إلى منتصف القرن الماضي، شعر البيت الواحد المستقل، داخل القصيدة التي تتكون من مجموعة أبيات مبعثرة، يستقل كل منها عن الآخر، إن هذا الشكل التجزيئي، المفكك في بناء القصيدة التقليدية ذات البيت الواحد، قد نشأ في زمن الحفظ الشفوي واللاكتابة وكان ذلك تعبيرًا خفيًا مشروعًا، عن حالة البيئة والظروف الاجتماعية التي نشأ فيها هذا الفن، ومما ساعد السامع أو المتلقي على حفظ تلك القصائد، ما تتمتع به من الإيقاعُ الخارجي العالي ووحدة البيت، لذا "جاءت حركات التجديد في الشعر العربي، ظاهرة تاريخية نابعة من ظروف سياسية واجتماعية وثقافية، عبّرت عن تحوّلٍ ملموس في وجدان الإنسان العربي المعاصر، وعن صياغة حلم الخروج- ليس من البيت إلى القصيدة- بل من عصر التخلف والجهل والمراوحة على أعتاب الماضي، إلى الحياة.. إلى رؤية مستقبلية مشرقة، خاصة بعد أن حقّقت حركة التحرر الوطني العربية".

ومن الملاحظ أن الوسائل الأدبية ليست من قبيل القطع الثابتة الجاهزة التي يمكن للمرء أن يحركها كما يشاء داخل اللعبة الأدبية؛ذلك لأن قيمة هذه الوسائل ومعناها يتغيران بتغير الزمان والسياق، وبالتالي أدى هذا إلى ظهور العنصر السردي كعنصر مهيمن.
---------

د.عادل بدر
(باحث وناقد مصري مقيم في قطر)
كلمات البحث
اقرأ ايضا: