Close ad

البوح درع وسيف ضد القهر.. قراءة فى رواية "فستان فرح" لرباب كساب

30-7-2016 | 10:52
البوح درع وسيف ضد القهر قراءة فى رواية فستان فرح لرباب كسابأرشيفية
منير عتيبة
إذا كانت مصر بعد 25 يناير2011 غير مصر قبل 25 يناير2011، فإن رواية رباب كساب "فستان فرح" قبل 25 يناير غير رواية رباب كساب "فستان فرح" بعد 25 يناير، فقد كتبت رباب نصف روايتها، من الصفحة الأولى حتى صفحة 186، وكتبت الثورة باقي الرواية من الفصل السابع عشر حتى النهاية.
موضوعات مقترحة


انطلقت الرواية من حالة ركود عامة، وإحباط معتم يملأ قلوب شخصياتها الرئيسة، ويهيمن على عقولها، شخصيات مهشمة بفعل العلاقات العاطفية والاجتماعية المهترئة، وبفعل الواقع الاقتصادى شديد الوطأة، تدور كل شخصية فى دائرة حياتها الخاصة المغلقة، وتعيش قصتها الصغيرة باحثة عن ثقب إبرة لاستمرار الحياة، من دون أن تعرف أو تكون لديها فرصة للتعرف على مكنونها وماهيتها الذاتية.

لذا لم يكن غريبا أن تبدأ الرواية بمشهد "أحمد الأهبل" يهجم على فتاة فى الشارع "بجسده الضخم وبعينيه المستديرتين النهمتين محاولا تقليد المطرب الأجنبى الذى شاهده يغنى دافعا رفيقته نحو الحائط قائلا push"ص7.
وتتسع دائرة الرؤية لنرى مقهى المعلم حسين الذى شاهد الأهبل الفيلم فى تليفزيونه، ثم نرى الحارة كلها بالتدريج، رضوى المدرسة المطلقة التى لديها طفلان من وجدى المدرس المساعد بالجامعة، والتى تعمل بالترجمة وتتجنب معاكسات شريف صاحب المكتب، وهو الذى سيقع فيما بعد فى حب عميق يغير حياته مع شيرى ابنة منير، ومى صديقتها وزميلتها فى المدرسة التى خطبت مرتين وفسخت خطبتها فى المرتين لأنها لم تستطع إخفاء رغبتها العارمة فى الجنس، ثم تلقى بنفسها فى أحضان وجدى التى تعرف كل شئ عن أنانيته وبخله، لكنه يشبع جسدها، ومنير المسيحى الطيب وكيل المدرسة الذى يرفض إعطاء دروس خصوصية ويعيش فقيرا مما يؤثر بالسلب على علاقته بأبنائه، فابنه يموت فى حادث، وزوج ابنته ينتحر لأنه لا يجد عملا بعد أن فشل فى العمل خارج مصر، ومنير هو الوحيد الذى يتابع الإذاعة ويعرف من حوله بأخبار مصر والعالم، وهم جميعا غارقون فى حكاياتهم الخاصة، وعايدة ناظرة المدرسة التقليدية التى تهب حياتها للمدرسة والمدرسات والطالبات، وتربطها صداقة عميقة بمنير وزوجته ماتيلدا وبرضوى، وفى الحارة نرى "هند" التى تزوجت رغما عن أهلها، ثم دخل زوجها السجن، وترك لها عبئا ثقيلا من الأبناء والفقر، فافتتحت كشكا فى الحارة، يعجب بها المعلم حسين، ويبدو الوله فى عينيه، لكنها تتجاهله، ثم تبدأ فى الاستجابة له. كما نلاحظ العلاقة غير العادية التى تربط بين رضوى والأهبل، علاقة أقرب إلى تعارف الأرواح ببعضها رغم عدم وجود صلة حقيقية واقعية بينهما، لكن الأهبل يعشق رضوى عشقا هو نفسه لا يدرك كنهه ومداه، وهى تتعجب من إحساس كل منهما بحالة الآخر حتى وهى فى الغربة خارج مصر، حيث كانت علاقة الأهبل بهشام طبيبه وحبيب رضوى متذبذبة بين العنف والتسامح والتجاهل حسب مدى قوة علاقة رضوى بهشام، فإذا كانا على وفاق كان الأهبل عنيفا معه، وإذا اختلفا أو تخاصما كان الأهبل متسامحا مع هشام الذى حاول أن يفهم سر هذا الارتباط العجيب الذى كان يجعل الأهبل يشعر برضوى بهذا الشكل الملهم برغم أنه لا يراها ولا يعرف تفاصيل ما بين هشام وبينها.

برغم سرد الرواية بلسان الراوى العليم إلا أن القارئ يشعر أن من يحكى هو "راوية عليمة" ليس فقط لأن رباب كساب كاتبة أنثى، ولكن لأن سمات الراوى هنا أقرب إلى السيدة التى تحكى، وتفضفض، وتبوح بالنيابة عن الشخصيات الأخرى، كأنه امرأة تعرف كل ما يحدث فى الحارة وتجلس على المصطبة وتروى للناس ما تعرف، لكنها فى نفس الوقت لا تكتفى بأن تحكى، بل تقيم وأحيانا تحاسب الشخصيات التى تحكى عنها، ولهذا لم تستخدم الكاتبة ضمير المتكلم الذى هو أنسب لحالة البوح لكنه لا يتيح فرصة الحساب هذه، فالراوية ترفض صراحة ضعف بعض الشخصيات "كلهن يبكين، كلهن يحملن الرجل أنهن لم يعدن كالسابق" ص78، كما أنها تقول رأيها صراحة فى شخصياتها "لكنها لم تدرك بمحدودية معارفها أن الراحة هى عقل مرتاح" ص120. وتكسر الراوية الإيهام أحيانا وتتوجه بحديثها مباشرة إلى القارئ مما يرسخ فكرة الفضفضة الحميمة التى تقدمها له عن شخصيات تعرفها عن قرب "يلتف الشارع أحيانا بعباءة العزلة.. تحس وكأنه خارج نطاق الحياة... فها هى رضوى تنحر فى روحها فى أعمال الترجمة..." ص91.

فالراوية توجه حديثها للقارئ حيث تعلم أنها تحكى له لتكسب أنصارا، فهو ليس مجرد بوح برئ، إنه سلاح فى معركة، قد تقسو الراوية على شخصياتها النسائية وعلى ما فيهن من ضعف أو تسرع أو تصرف وفق غريزة الجنس لا وفق العقل أحيانا، لكنها قسوة من يقف فى صفهن لا من يعمل ضدهن، لذلك نرى أسوأ الرجال فى الجزء الأول هو وجدى لأنه أسوأ من تعامل مع النساء فى هذا الجزء، مع رضوى ومى، أما هشام وشريف فكل منهما يقدم بشكل إنسانى ويحبب إلى القارئ أو ينفر منه حسب تذبذب علاقته وموقفه من المرأة؛ رضوى وشيرى على التوالى. ومنير هو الملاك الطيب لأنه قريب لرضوى وعايدة ويبذل نفسه فى خدمتهما.

هنا نجد حكاية بجمل طويلة، فيها تردد، فيها التباس أحيانا، فيها عدم يقين من يبحث عن خطواته فى ظلام دامس، لكنك فجأة، وبداية من الفصل السابع عشر تكاد تشعر أن راوية أخرى تحكى، الجمل خبرية قصيرة واثقة بها نور يقين من رأى.

فها هي مقدمات الثورة، ثم أحداثها المتلاحقة، وها هى الشخصيات التى تدور فى فلك ذاتها ولا ترى غير قصصها الصغرى تجد شمسا كبرى تدور فى فلكها هى مصر، وتجد قصة كبرى تضم كل تفاصيل حكاياتها الصغيرة حداها هما الحرية والفساد، فمع تفجر الثورة تكتشف كل شخصية ما كان خافيا عنها فى شخصيتها، تكتشف قدرة الصمود والتحدى بداخلها، والقدرة على التضحية بدون انتظار المقابل، وتصبح مصر هى كل الناس فى الداخل والخارج، وتصبح الشخصية الأسوأ هى التى تتعامل بشكل سيئ مع مصر؛ حسين الذى يساعد فى تنظيم موقعة الجمل ويحارب الثوار، وتصبح الشخصية الأفضل هى التى تتعامل مع مصر بشكل أفضل فى الميدان الواقعى، ميدان التحرير، وفى الميدان الافتراضى، الإنترنت، حيث كان أحد الأسلحة المهمة للثورة فى الخارج والداخل، تكسر الشخصيات قيد أنانيتها، وترد مشكلاتها إلى أسبابها الحقيقية وجذورها العميقة، الفساد والقمع الذى عاشته مصر؛ رجالا ونساء، لعقود طويلة، جعل من كل فرد فيها ديكتاتورا صغيرا على الآخر، فلم يعد قهر الرجل للمرأة هو ما تريد الراوية أن تحكيه لتتخلص منه، بل أصبح قهر السلطة الغاشمة لهما معا، وسحقها لإنسانيتهما معا، هو ما يسعى الجميع؛ الراوية والشخصيات، للتخلص منه والقضاء عليه.

رباب كساب التى كانت تخطط لتكون رضوى رمزا ما لمصر المقهورة، تصبح روايتها نفسها؛ وليس بطلة الرواية، هى مصر بذاتها، الرواية/مصر التى كانت تبحث فى الفصول الأولى عن لغتها ونغمتها الخاصة، وطريق المستقبل، وجدتهم جميعا مع قيام الثورة. لذلك تكسر رباب/الرواية/الثورة فكرة موت القصص الكبرى لصالح الانشغال بالقصص الصغيرة الذاتية للغاية، فهذه القصص الصغيرة لم تتحرك خارج دوائرها الراكدة، ولم تجد طريقها الحقيقى إلا عندما تحركت القصة الكبرى، والتغيير الحقيقى للشخصيات، أو قل الانكشاف الحقيقى لجوهر الشخصيات جاء من هنا، من ارتباط تروس عجلة الحكاية الشخصية بتروس عجلة الحكاية الكبيرة/الثورة لنتتج طاقة من نور ترى بها الشخصيات حقيقتها وتكتشف قدرتها على الفعل، وتكشف فى الوقت نفسه الأقنعة عن الشر الكامن فى شخصيات أخرى كانت وراء فساد حياة مصر بكل ناسها. إذ تصبح الثورة هنا عودة للوعى لرؤية الحقيقة الكاملة من دون التوهان فى التفاصيل، فالفتاة الصغيرة تسأل أم الشحات عن ابنها، وتجيب أم الشحات بأنه مات فى العبَارة "أدركت عايدة أنه لا يوجد أحد ليس له ثأر مع هذا النظام القمعى، العبارة التى راح ضحيتها المئات وبدلا من أن يتوجه الرئيس بمواساة الشعب ذهب ليشاهد مباراة لكرة القدم" ص224. وتحرص الراوية على إيراد المشاهد التى توضح ما فعلته الثورة بالمصريين، وتحرص على ذكر تفاصيل أيام الثورة الثمانية عشر، لكنها بذكاء فنى تربط أحداثها بحركة شخصيات الرواية، فلا تتحول إلى مجرد تسجيل لما حدث يمكن أن نقرأه فى أى موقع إخبارى، وفى نفس الوقت تستخدم هذه الأحداث فى دفع الرواية خطوات للأمام وفى تربيط علاقات شخصياتها بعضها ببعض إيجابا وسلبا.

"الميدان خلق نفوسا جديدة... انتشرت أحوال الميدان التى اعتبروها غريبة. تغنوا بسافرة تفرد جريدتها أمام رجل كان يصلى على الأسفلت، صاحب لحية يترنم بأناشيد لأجل مصر، مسيحية تصب الماء لمسلم يتوضأ، ألا يعرفون إنها مصر فقط خلعت عنها أسودها" ص270.

في هذا المجال الحيوى التى تتحرك فيه الشخصيات وهى تعيد اكتشاف نفسها فى وهج الثورة، تصبح شيرى أكثر إيجابية، وعايدة تكسر روتينيتها وخوفها الدائم، ورضوى مناضلة على الإنترنت، ومى تتغلب على جوعها الجنسى الدائم لفاطمة وترفض تأثيرها عليها، وفى هذا الجو العام لابد أن يرحل أحمد الأهبل مع رحيل النظام الذى أنتجه، لاحظ أن والده ضابط بالجيش، ولاحظ أن الكاتبة التى أرادت أن تصنع علاقة ميتافيزيقية بين رضوى وأحمد الأهبل فى بداية روايتها، معتمدة على جملة أحمد الأثيرة "هاتى ربع جنيه" تضطرها الثورة لأن تكتشف حقيقة أحمد كنتاج غير سوى لعقود من السنوات العجاف التى عاشتها مصر فتصف عبارته الأثيرة بأنها "استبدادية".

هذه الجملة التى توقف تدفق شلال الفرحة فى روحها بعد أن وصفت الميدان بأنه الجنة، فبعد خطاب التنحى الشهير الذى أذاعه نائب مبارك عمر سليمان تتوالى مشاهد الفرحة التى تصفها الراوية بتقطيع سينمائى ما بين الجموع فى الميدان وفى خارج مصر وبين شخصيات الرواية حيث يصبح الفرد والجمهور كل منهما تعبير عن الآخر، صورة بانورامية ولقطة من قريب، لكن "هشام يصرخ، يقفز كالمجانين، يتصل بها تحتضن فرحته بزغرودة. صمتت فرحتها فجأة حين داهمها صوت من قلب الموت قائلا: هات ربع جنيه الاستبدادية"ص280، وكأن رضوى؛ ونحن معها، لا تتحمل أن تفرح فرحة مطلقة وصافية ولو لمرة واحدة، لكنها تتوجس من هذه الفرحة، فهل كانت نبوءة؟!

إن عبقرية الإبداع أن يترك المبدع نفسه لتيار الحكى فلا يلوى عنقه، أما رباب كساب فقد تركت نفسها ليس فقط لتيار الإبداع المتدفق أن يكتب نفسه على الورق، بل تركت نفسها وإبداعها لحركة تيار التاريخ فى لحظة نادرة التكرار، لحظة ثورة شعبية حقيقية مهما أرجف المرجفون والمزيفون حولها، فأخذتها هذه الثورة وروايتها إلى مناطق إبداعية وإنسانية شديدة الخصوبة، قادرة على أن تمنح هذه الرواية طبقات متعددة من متعة التلقى بعدد من يقرأونها.
كلمات البحث
اقرأ ايضا: