يواصل المبدعون المصريون كتابة تجاربهم العميقة مع المرض والعمليات الجراحية، ليضيفوا نصوصا إبداعية جديدة لمدونة الأدب العربي الحديث، تتحدث عن تلك اللحظات الحرجة التي يحياها الإنسان ما بين اليأس والرجاء، والموت والحياة.
موضوعات مقترحة
هكذا رأينا محمد جبريل يكتب آلامه وأوجاعه في روايتيه التسجيليتين "الحياة ثانية" و"مقصدي البوح لا الشكوى". إنه يؤرخ لهذا الوجع وذلك الألم الذي ألمَّ به عبر محنة صحية هائلة، وانتكاسة وآلام باح لنا بها – بخاصة في روايه الثانية - بعد إجراء عملية أسفل العمود الفقري، لم تُكلل بالنجاح لأنها كانت تريد إجراءً ومتابعة معينة وتثبيت العظام بعدها.
أما د.طلعت شاهين في روايته "البرتقالة والعقارب" فهو يتناول الموضوع من زاوية أخرى حيث الورم المخي الذي كان في حجم البرتقالة، فكان من الضرورة القصوى شق الدماغ لإخراج هذا الورم الخبيث.
الفارق أن محمد جبريل أجرى عمليته في مصر، فحدثت الانتكاسة، بينما أجرى طلعت شاهين عمليته في إسبانيا، فكتب له الشفاء.
ولكن قبل إجراء شاهين عمليته التي سافر من أجلها إلى مدريد، عرض نفسه على أكثر من طبيب اختصاصي، بعضهم أخطأ في التشخيص واعتقد أن المريض يحتاج إلى نظام غذائي لمرضى السكر والكوليسترول، ومن خلال رحلة البحث عن علاج يكشف لنا عن طبيعة التعامل مع المرضى في مصر سواء في المستشفيات أو العيادات الخاصة، والحكومية ومنها "القصر العيني الفرنساوي" الذي يتهم السارد أطباءه والمبنى نفسه بالغباء قائلا في ص 11: "ساقي اليسرى التي كانت قد بدأت تفقد قدرتها على احتمال جسدي شيئا فشيئا، وأطباء القصر العيني الفرنساوي الأغبياء لم يلحظوا ذلك".
وفي ص 52 يقول: "ساقي اليسرى تؤلمني وأكاد أجرجرها، وغضبي من كلام أطباء القصر العيني الفرنساوي يزيد من حدة الإحساس بالألم، هؤلاء الأغبياء ومبنى مستشفاهم الأغبى".
وهو ما استفاض فيه جبريل أثناء رحلة علاجه، ولكن شاهين لم يسهب في هذا الأمر لأنه اخذ القرار السليم بالسفر إلى الخارج لإجراء عمليته الخطيرة التي ربما لو لم تنجح بنسبة 100% لكانت هناك آثار خطيرة ليس أقلها الشلل التام.
وما ساعد شاهين على اتخاذ قرار السفر إلى الخارج هو أنه سبق له العمل في إسبانيا عددا من السنوات، وله اشتراك في التأمين الصحي هناك، كما أنه متزوج من إسبانية، حدث بينهما طلاق بسبب الغيرة، ولكنهما عادا إلى بعضهما البعض قبل إجراء العملية، وفي إطار مبادرة "لم الشمل" التي خصص لها الفصل السابع.
أما جبريل فلم ينجح – حتى الآن – في السفر إلى الخارج لاستكمال مراحل علاجه.
رواية طلعت شاهين تعد رواية من روايات السيرة الذاتية، رغم ما فيها من المتخيل، وما بها من حكايات عن مرضى آخرين زاملوه في الغرفة رقم 552 بالمستشفى الجامعي رامون إي كاخال بمدريد، وما بها من أحداث تقع بين منطقة اليقظة والمنام، فلا نعرف هل وقعت بالفعل أم هي من تأثير المخدر أو البنج الذي تعهدت به طبيبة التخدير سورية الأصل آمال عزام، وهو ما أكسب الرواية بعدا إنسانيا أعمق من كونها تسرد أحوال مريض داخل مستشفى.
يقول طلعت شاهين عن روايته في موقع "ميدل إيست أونلاين": "الرواية ما هي إلا سيرة ذاتية لي لرحلتي مع مرض السرطان منذ البداية حتى الشفاء، ولكنني أردت أن يشاركني فيها العالم، أنا شاركت في حرب أكتوبر ولم أكن أتوقع عندما عرفت بإصابتي بالسرطان إنني سأكون رقما بالنسبة للأطباء والدولة".
ويضيف: "رحلتي مع العلاج كانت رحلة كل مصري في المستشفيات الحكومية والخاصة يحاول أن يبحث فيها عن حقوقه كمواطن ولكن دون جدوى، الأمر الذي دفعني في نهاية المطاف أن أطلب الشفاء من أرض العلم والرحمة في أوروبا وبالتحديد في إسبانيا".
عنوان الرواية كعتبة أولى يصنع نوعا من الدهشة والتساؤل، ويشير السيميائيون إلى أن العنوان "يعد عنصراً جوهرياً في مكونات النص وبؤرة دلالية قد تكون مفتاحاً سحرياً لولوج أغوار النص العميقة".
ولعلنا نتساءل ما العلاقة بين "البرتقالة والعقارب"، وما هي "البرتقالة" وما هي "العقارب" التي ورد ذكرها أضعاف أضعاف البرتقالة في تلك الرواية التي وقعت في 106 صفحات، وصدرت في طبعتها الأولى عام 2015 عن دار اليمام للنشر والتوزيع بالكويت.
وهذا يمنحنا سؤالا آخر، فرواية يكتبها كاتب مصري تدور معظم أحداثها في مدريد، وتطبع في الكويت كما هو ثابت في صفحة البيانات الببلوجرافية أو الكوبي رايت (ص 2) على الرغم من امتلاك أو مشاركة المؤلف لدار نشر هي دار سنابل بوسط البلد بالقاهرة التي تردد اسمها كثيرا بالرواية وخاصة أثناء أحداث ثورة 25 يناير.
البرتقالة كما سبق الإشارة، تشير إلى حجم الورم بالرأس فهو "ورم بحجم البرتقالة"، يقول الطبيب الإسباني روديجيث كاراسكو أخصائي المخ والأعصاب: "أملك في الحياة ضعيف جدا، برأسك ورم بحجم البرتقالة، كلما زاد حجمه زاد ضغطه على المخ، حياتك في خطر".
وردت كلمة "البرتقالة" أربع مرات في متن الرواية، و"عصير البرتقال" ست مرات، ونلاحظ أن "البرتقالة" ارتبطت بالورم كداء خطير يسري في المخ، أما "عصير البرتقال" فقد ارتبط بالشفاء أو بطقوس الشفاء من هذا المرض الخبيث.
يقول السارد عن الممرضة الإسبانية: "قدمت لي شيئا من عصير البرتقال في كوب بلاستيكي صغير، وكبسولة دواء لا أعرف أو لا أتذكر اسمه الآن". ص 13.
كما نلاحظ أن "عصير البرتقال" (رمز الشفاء) تقدم في ظهوره في المتن على "البرتقالة" (رمز المرض)، فبينما ظهر العصير في ص 13، فإن "البرتقالة" كان أول ظهورها في ص 24.
وهو ما يؤكد على ما يعتمل داخل السارد، أو في لاوعيه، واطمئنانه على نجاح العملية، ربما قبل أن تجرى.
بينما وردت كلمة "العقارب" 38 مرة، بالإضافة الى مفردها "العقرب" المعرفة بالـ (9 مرات) أو "عقرب" غير المعرفة (15 مرة)، فضلا عن الضمائر الكثيرة التي تعود على هذا اللفظ سواء العقارب (الجمع) أو العقرب (المفرد) بالإضافة إلى صورة العقرب المائية التي تتصدر مطلع كل فصل من فصول الرواية، وصورته على غلاف الرواية سواء الأمامي أو الخلفي حيث نجد عقربا واحدا على الغلاف الأمامي، وثلاثة عقارب على الغلاف الخلفي، بينما لم نجد صورة للبرتقالة على أي الغلافين، ولكن لاحظنا لون كلمة "البرتقالة"، وكان باللون البرتقالي، بينما جاءت كلمة "العقارب" باللون الأصفر، حيث يكون اللون الغالب لجسم العقرب هو الأصفر والأطراف والمقارض بلون أصفر فاتح كأنه شفاف.
بينما كانت لوحة الغلاف لجزء من غرفة بإحدى المستشفيات ولعلها الغرفة 552 بالمستشفى الإسباني مع ملاحظة خلو سرير الغرفة من المرضى، وتنازع اللونين الأصفر والأصفر البرتقالي مع الأسود الذي يحتل يسار اللوحة الأمامي وأغلب أجزاء الغلاف الخلفي.
وكأن المعاناة الحقيقية، وخاصة النفسية، للسارد هي العقارب وليس البرتقالة.
لقد ظهرت العقارب في حياة السارد منذ صغره "فمن كل الزواحف والحشرات كنت دائما أخشى “العقارب”، فلا الثعابين بأنواعها وأشكالها التي شاهدتها في حياتي طفلا وشابا كانت لها صورة مخيفة في ذاكرتي كالعقارب، رأيتها في طفولتي تهرب من مياه الفيضان إلى طرقات بلدتنا الصغيرة في الصعيد (أبنود)" ص 35.
وتكرر تأثيرها والخوف منها أثناء فترة تجنيده وخاصة أثناء حرب اكتوبر 1973، يقول: "كنت أفضل النوم في شاحنات القيادة الباردة ليلا رغم أنها كانت هدفا سهلا للغارات الليلية لطائرات العدو عن النوم في غرف نوم دافئة تحت الأرض خوفا من العقارب. وخلال حرب اكتوبر 1973 كانت الطائرات تحوِّم على الرؤوس ولا تلفت نظري بقدر ما يقشعر بدني من خشخشة قريبة من قدمي ليلا قد تكون لعقرب تبحث عن مخبأ أو ضحية" ص 35.
كما تكرر الخوف من العقارب أثناء ثورة 25 يناير، ولم يحسب السارد حسابه أن العقارب سوف تطارده صورتها حتى لو نزل في أفخم الفنادق، "فالعقارب أصبحت تشكل جزءا من حياتي اليومية".
احتوت الرواية على 22 فصلا ما بين قصير ومتوسط الطول، وقد حمل الفصل الثامن اسم "العقارب"، بينما لم نجد فصلا بعنوان "البرتقالة"، ما يؤشر مرة أخرى على أن "العقارب" كانت أكثر تأثيرا في سيرة حياة السارد أكثر من الورم الخبيث الذي في حجم البرتقالة.
وعلى الرغم من نجاح العملية وشفاء السارد، إلا أنه لم يشف بعد من أوهام أو خيالات العقارب، منهيا روايتَه بقوله: "أنا لا أريد للعقارب أن تحوّم من حولي مرة أخرى".
وكأننا أمام مرضين لا مرض واحد، مرض نفسي يتمثل في ظهور العقارب التي تحوم حول السارد في كل مكان يذهب إليه سواء في منزله بالصعيد حيث أصيبت أخته بلدغة عقرب، أو في الصحراء حيث "عقارب سيناء" أو مكتبه في دار سنابل بوسط البلد بالقاهرة، أو في ميدان التحرير أو في مسكنه بمدينة 6 أكتوبر أو بالمستشفي في مدريد.
أما المرض الثاني فهو المرض العضوي وهو الورم الخبيث الذي شفي منه بعد إجراء العملية الجراحية وخضوعه لفترة النقاهة، حيث يكتشف السارد أن حاله تغير قبل اكتشاف تشخيص المرض عنه بعد إجراء العملية الجراحية.
بينما لم يؤكد لنا شفاؤه من مرضه النفسي، خيالات وأوهام العقارب.
هكذا يبدو أو يطل علينا عنوان الرواية "البرتقالة والعقارب" ـ كعتبة أولى ـ والذي حمل لنا في البداية نوعا من الدهشة والتساؤل، ولكن نكتشف جماليات هذا العنوان بعد التحليل السابق.
رواية طلعت شاهين لا يوجد بها إهداء كالذي رأيناه في رواية محمد جبريل الذي أهدى روايته إلى "زينب"، ويقصد زوجته د. زينب العسال التي تحملت معه مشاق الرحلة العلاجية بكل تفاصيلها.
وعلى الرغم من حديث سارد طلعت شاهين عن الزوجة الإسبانية التي انفصلت عنه في يوم من الأيام لغيرتها الشديدة، وعودتها له، وزيارتها المتكررة للمستشفى واستئجارها شقة صغيرة بالقرب من المستشفى لسرعة العودة إليها إذا تطلب الأمر ذلك. وبالفعل يعود السارد للمستشفى ثلاث مرات خلال الشهر الأول خوفا من حدوث مضاعفات لا يحمد عقباها، إلا أنه لم يهد الرواية إلى تلك الزوجة أو إلى أحد من أصدقائه الذين ورد أسماء العديد منهم داخل المتن.
وبذلك نفقد عتبة الإهداء في تلك الرواية الإنسانية الرائعة.
أما عتبة العناوين الداخلية للفصول فهي دالة على الحالة التي يعيشها السارد، ويبدؤها بـ"الإفاقة" وينهيها بـ"الخروج"، وما بين الإفاقة والخروج تتعدد الفصول ما بين العودة للوراء (الفلاش باك) واستدعاء لصور وجوانب ومحطات وشخصيات في حياة السارد، وكلها شخصيات حقيقية سواء كانت أدبية أم طبية، مثل الشاعر أحمد الشهاوي والشاعر أحمد يماني والفنان التشكيلي عادل السيوي والشاعر والتشكيلي السوداني عنتر أحمد حسن والكاتب العراقي محسن الرملي وغيرهم.
وبطبيعة الحال تظل شخصية السارد هي الشخصية المهيمنة أو الرئيسية والأهم التي تدور حولها الأحداث ويتلاعب بها الزمن والمرض، وهي شخصية في غاية الرقة والإنسانية، رغم عاديتها، فلا هي شخصية أسطورية ولا شخصية البطل الضد، ومن هنا يأتي التعاطف معها في مرضها وفي سردها المتوالي وفي خيالاتها وأوهامها وتعاملها الرزين مع بقية الشخصيات سواء داخل المستشفى من مرضى وعاملين أو القادمين من الخارج.
كما اجتمعت في هذه الرواية شخصيات مسلمة مع شخصيات مسيحية تبرز مدى التسامح والمحبة والنسيج الإنساني الواحد سواء داخل مصر أم خارجها، ففي داخل مصر تبرز شخصية الخواجة بهيج "تاجر أقمشة قبطي معروف في سوق القرية، ولكنه كان مشهورا بالعلاج من لدغات العقارب التي كانت تنتشر بالقرية التي تأتيها العقارب" وهو الذي عالج أخت السارد بخبرته وحنكته وكتابة بعض الأحرف القبطية بقلم كوبيا على ورق "بافرا"، دون أن يتلقى مقابل.
إلى جانب شخصيات المرضى الإسبان بالمستشفى من أمثال أماليو ويوليوس قيصر وخاثينتو، ولكل حكايته وأسطورته الخاصة التي ربما صنعها السارد ما بين النوم واليقظة، أو ربما كانت قادمة من حلم أو ناتجة عن لحظة غياب، أو ربما تكون حكايات حقيقية ينقلها لنا السارد من داخل الغرفة رقم 552.
ورغم أن الرواية تعتمد الزمن الخطي للأحداث، إلا أن العودة إلى الوراء والاشتباك مع الواقع في بعض فصولها منحها هذا التعرج الزمني ما بين الماضي والحاضر. أيضا تعددت الأماكن داخل هذا التعرج الزمني ما بين الصعيد حيث طفولة السارد وسيناء حيث سنوات تجنيده، والقاهرة والجيزة حيث مكان عمله وإقامته، وشرم الشيخ حيث قضاء شهر عسل جديد وحديث سياسي عن رمزية "الهرم المقلوب" في شرم الشيخ، قائلا: "كل فراعين مصر بنوا أهراما ومسلات شاهقة لتخلدهم، وهذا المعتوه فرعون ناقص عقل، حتى نهايته جاءت في هرم مقلوب".
وهو حديث يؤكد البعد السياسي بالرواية رغم أن موضوعها الرئيسي هو المرض ورحلة العلاج الصعبة، إننا لا نستطيع التخلص من الحديث عن السياسة في حياتنا اليومية وفي إبداعاتنا المعاصرة، حتى ونحن على فراش المرض وداخل غرف العمليات، وهو ما يؤكده هذا البعد السياسي لرواية "التفاحة والعقارب".
بطبيعة الحال تبرز مدريد بقوة حيث مكان إجراء العملية، وليس كمكان سياحي يوشي الرواية بمناظر لافتة، ونساء فاتنات. ولكن في جميع الأحوال وجميع الأماكن تبرز العقارب بشدة، فالسارد لم يزل في رحلة علاج طويلة كي يشفى من "العقارب".
------
أحمد فضل شبلول
(شاعر وكاتب مصري)