إذا كان الشبح مرشدًا إلى الموت ودليلًا على حضوره فإن الدمية تذكير به، بها يستعيد الموت حضوره ليصحب ضحاياه إلى مثواهم الأخير.
موضوعات مقترحة
لم تكن الدمية لعبتنا الأولى فقط، بل كانت تشكل وعينا الأول بذاتنا الممزقة التي انفصلت عن رحمها الأمومي، مرآة ترتسم على وجهها دواخلنا الباطنية، هواجسنا ورغباتنا المتعذر الإفصاح عنها لصمت الدمية الرهيب، نرى في جسدها المركب والمرتق انكسارنا وتمزقنا وأعطاب جسدنا الهش، ونحدس في تصلب أعضائها جمود جسدنا الميت، "إننا أمام الدمية التي تتفرس وجوهنا، نشعر لأول مرة بالخواء العاطفي، بتوقف القلب هذا الذي سيكون قاتلًا إذا لم تجد الطبيعة بكل عدتها الخيرة لتخليصنا من هذا الذي جعلنا كشيء مفرغ من الحياة، والذي يقف على حافة الهاوية".
فليست الدمية بذلك مجرد لعبة صنعت من قش أو مزق أو خشب أو سيليكون، بل كائنًا حيًا يماثلنا ونحن نحاكيه حينما نغدو مجرد كراكيز تحرك خيوطها أيدي القدر. ولهذا السبب لا تنحصر علاقتنا بالدمية في ظرف مؤقت يشغله زمن الطفولة، بل يظل شبح الدمية عالقًا بنفوسنا يعاود الظهور كلما استعاد الوعي ذاكرته المفقودة، ذاكرة ذلك الطفل الذي يسكننا، الذي تظل هواجسه ومخاوفه تقض مضجعنا، لأن الدمية التي صاحبته في طفولته كانت بداية فطامه ولفظه من عالم الأمومة نحو الوحدة والعزلة والشعور بالفقد وتهديد الموت، "لأن الثدي الأمومي باعتباره الموضوع الذاتي الأول الذي يربط جسد الأم بجسد الطفل، كان مصيره الاختفاء لتحل محله اهتمامات أخرى"، يقول السارد في قصة جناح الفصام "لكن الصور في اعتقادك ظلت ناقصة ومبتورة مادامت تلك الدمية رهن الأسر، رهن الذكرى، رهن الذكرى الهاربة من شخص ميت بداخله وهو حي. ففي كل خزانة نحكم إغلاقها كما يجب، ثمة يأس صامت، ثمة أشياء يوجعها النسيان، ثمة دمية داخل الجثة تبتغي الفرار بأي ثمن و لا يمكنها الخروج" (م،د.ص 117 ).
لقد كانت الدمية تسحبه من حضن الأم ومن عالمه الداخلي نحو الخارج، وتشعره بأول تهديد للموت يترصده إن هو لم يدخل عالم الكبار ليحاكيه ويعيش رجولته القادمة ممثلة على ركح الطفولة، بحيث لن يصير إلا ذلك الطفل الذي كبرت معه أحلامه، يحياه بشكل مثير للغرابة المقلقة على حد تعبير فرويد. لذلك فإن ظهور الدمية المفاجئ في حياة شخصيات مصحة الدمى استعادة وتكرار ما عاشته في طفولتها، عودة لذلك الطفل الذي لم يمت بعد في صورة دمية مهشمة الأوصال، يرغب في استعادة طفولته الكسيرة التي سلبت منه حبه النرجسي لذاته الخالدة و جعلته في مواجهة موته.
لذا نرى ظهور دمى شوهاء تصحب قرين الشخصيات الشبح، بُعثت فيها الحياة بعدما كانت مهملة وسط المتلاشيات أو في مكب النفايات، تقتحم عالم الشخصيات و تعكر صفو سكينتها تارة باستدرار عطفها وتارة بالنقمة عليها والفتك بها، وكأنها كائن عائد لتوه من عالم النسيان ليبعث ذلك الذي ظل طي كتمان اللاوعي، ويحرض كل الهلاوس والوساوس والغرائز، التي طالما كدت الشخصيات في طمسها و إبعادها، على الخروج من مخبئها، يقول سارد قصة جناح الهلاوس الذي يجمع الدمى ويعلقها على الأشجار لتتراقص مع هبوب الريح "أرهف الجوارح،الجوارح بأجمعها إلى موسيقاها الجهنمية التي تنادي صبيًا نحيلًا كان يولد من الإيقاع، ويشاركها التأرجح كتفًا لكتف في انسجام هارموني وأدائي خليق برقصة أحواش" (م،د.ص 81 ).
لذلك فإن عودة الطفل المجسدة في الدمية صحبة القرين الشبح استرجاع لكابوس الموت الذي تعذر محوه، أي ذلك الشعور بالتهديد إثر انقطاع رابط الأمومة، يقول سارد جناح الشظايا مبينًا علاقة الشخصية بالدمية "بمعيتها يخاطب خيال أمه التي ماتت منذ عشرين عامًا... ثمة جروح لا تلتئم أبدًا، و يستحسن أن لا نرفع عنها مطلقًا فضل الغطاء. تكفيه صحبة السيدة الدمية. فهي صديقة المواجع التي تزدحم في الصدر" (م،د.ص 104 ).
و على الرغم من دأب شخصيات القصص على تغيير مقامها وهويتها ومحو كل أثر يهدي إلى تقفي خطاها رغبة في التخلص من جرح الذاكرة، وهربًا من ذلك الطفل الذي لا يكف عن مطاردتها، سرعان ما تجد نفسها مهددة بالموت من دمية انبعثت من أحلامها الماضية وصارت كائنًا حيًا يتلذذ بتعذيبها وافتراسها، كما في قصة "جناح الأورام" وقصة "جناح العاهات"، أو تلفي نفسها محط حب قاتل من دمية طفولتها تتوسل لها العطف والود بعد أن تخلت عنها في كبرها كما في قصة جناح الغصص.
وعلى النقيض من ذلك تروم شخصيات أخرى في القصص إلى الوله بدماها، وتحرص على صقل جسدها وإبراز مفاتنها كأنها معشوقة تتجمل لأسر قلب عاشقها، تنفرد بها الشخصيات في عزلتها لرتق حبل الود الذي مزقته أيدي القدر الإنساني المحكوم بالفصل الموجع والفرقة المؤلمة، و تعيد صورة ذلك الطفل الذي طالما تنكرت له ليهيم حبا بدميته، ذلك الحب البديل لحب أمه المفقود، لكنه حب مختوم بطابع الفقد، تغدو من خلاله الدمية مجرد خيط رهيف يربط بين عالمين، "الحقيقي والملتبس، المتحرك والجامد، اللعبة والمعبود، المقدس والمدنس"؛ بحيث لن يزيد حبه لها إلا فرقة جارحة وشعورًا بموت رابض ينخر أوصال الدمية الجامدة، لذلك ترى شخصية جناح الفصام وهي تحاول جاهدة نفخ الحياة في جسد الدمية الميت بمضاجعتها مثلما يفعل النيكروفيليون بالموتى، معتقدة أن فعل الانتهاك الجنسي هذا يعيد الرابط المفقود ويبدد فعل الموت المدمر ببعث خلق جديد تزفه الولادة، بل تمعن في الفتك بالدمية في مشهد لا يخلو من عنف مستطير، باحثة في بواطن الدمية عن سر الأبدية، شبيه فعلها بِجاك السفاح الذي يبقر بطون البغايا في أزقة لندن المظلمة لمعرفة ما تخبئه الأرحام، وشبيهة دميتها بدمية هانز بلمير حين يصير "جسدها موضع الجواب الملح وإرادة توقع المستحيل من خلال فعل الانتهاك الذي يخاطر بمهاجمة البطن الأمومي" الذي يخفي في أعماقه كنه الوجود.
إن الوله بالدمية الذي انقلب عنفًا ليس له إلا تفسير واحد، يجمله جورج باطاي في رغبة اتصال جامحة تقود العاشق إلى انتهاك حرمة جسد المعشوق والفتك به للتخلص من عالم الفرقة والانفصال الذي تعاني منه الذات الفردانية، بحيث ينصهر العاشقان لحظة المجامعة العنيفة حتى يغدو موتهما وشيكًا في ذروة الاتصال، كأن لذة الانتشاء لا تكتمل إلا بتقاطع الموت مع الجنس.
"من ثمة فإن للموت جاذبية أساسية في الانتقال من الموقف السوي نحو الرغبة". لذلك ليس أمام الشخصية من سبيل لبلوغ الخلود الذي هو لحظة الاتصال المستحيلة سوى الموت، أي الحنين إلى مهد الولادة والعودة إلى الرحم القبر، وهو ما ترغب فيه شخصية جناح الفصام حين تطلب من السارد القرين أن يأسرها داخل خزانة الدمية باعتبارها الرحم الأبدي لما قبل الولادة والممات "وأنت تنزل من حلبة الرقص الدوارة منهكًا و مغسولًا بالعرق، كي تربض بنفسك داخل ظلمة الخزانة الخشبية، وتطلب مني أن أضع على بوابتها ذلك القفل الصارم الذي كنت تعبث به كلما غبت عن شقتي... أبتهل إليك، لا تطلب مني بعد اليوم أن أفتح لك" (م،د.ص 123 ).
أمام صورة الدمى المرعبة التي تذكرنا بشعورنا الأول بالموت وتدميرها حبًا وهياما رغبة في العودة إلى الرحم الأمومي موطن الولادة والممات، لا يسعنا إلا أن نقول مع سيوران "نحن لا نركض نحو الموت، نحن نفر من كارثة الولادة ونتخبط مثل ناجين يحاولون نسيانها. ليس الخوف من الموت سوى إسقاط على المستقبل لخوف قادم من لحظتنا الأولى".