يعد د.فرج فودة، الذي تحل ذكرى رحيله اليوم، 8 من يونيو، أحد أهم وأشهر الأسماء التي ارتبطت بالمعركة العلمانية الأصولية في السنوات الأخيرة، وربما يرجع ذلك لارتباط اسمه باسم واحد من أشهر رجال الأزهر، الشيخ محمد الغزالي، وبالطبع بسبب النهاية، التي كانت متوقعة، باغتياله.
في 8 يونيو من عام 1992 قام مسلحون بإطلاق الرصاص على سيارة فودة، التي كانت تقله مع ابنه وأحد أصدقائه، ليتم نقله إلى المستشفى، وبعد محاولات استمرت 6 ساعات لإسعافه فارق الحياة، ولما يكن قد مضى على مناظرة معرض الكتاب الشهيرة، التي أقيمت في 7 من يناير سوى خمسة أشهر، هذه المناظرة التي جمعت في طاولة واحدة الشيخ الغزالي ومأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان.
المتابع لقضية فودة له أن يتساءل: لماذ وجهت تلك الرصاصات صوب فودة ولم توجه ضد د.نصر حامد أبو زيد، أو د.مراد وهبة، وهما اسمان لهما وزنهما في الفكر العلماني، بل يراهما كثير من الباحثين، وحتى من القراء العاديين أكثر عمقًا وأشد خطورة من فودة؟
الإجابة عن هذا السؤال تحيل السائل إلى سمات فكر فودة، وآليات خطابه وبنية كتاباته، هذه الكتابات التي تتماس في جانب كبير منها مع فكر النهضة، الذي يؤرخ له بداية من الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده، مرورًا بطه حسين وعلي عبدالرازق، وانتهاء بجيل الستينيات، أمثال د.زكي نجيب محمود، وهو الفكر الذي قدر له أن يفشل، حسبما يرى د.نصر أبو زيد.
في قراءاتنا لكتابات فودة لا يمكن أن نغفل الظرف السياسي الذي ظهرت فيه كتاباته، وهي فترة السبعينيات وما تلاها، حيث الانفتاح الاقتصادي، والتوغل والتغول لتيار الإسلام السياسي، والهجمة الشرسة لما عرف بالوهابية على مصر.
من هنا جاءت كتابات فودة سياسية الطابع، تحمل خطابًا سجاليًا، يرد على حجة المطالبين بإقامة الدولة الدينية بحجة مضادة، فيرجع إلى التاريخ الإسلامي في "الحقيقة الغائبة"، حيث يفند الدعاوى التي تهتف بالعودة إلى عصر الخلافة بوصفه فردوسًا مفقودًا، ليقدم قراءات في الخلافات (جمع خلافة)، المتعاقبة، بدءا من الخلافة الراشدة، مرورًا بالأموية، وانتهاء بالعباسية، وهي الفترة التي يراها الداعون للخلافة فترة الإسلام الذهبية.
ثم يخطو فودة خطوة نحو الحاضر، والمستقبل بالضرورة، في "قبل السقوط"، حيث يتناول بالنقد تجربة تعد الأبرز في المنطقة لما يسمى بتطبيق الشريعة، وهي تجربة السودان على يد جعفر النميري في الثمانينيات، مشيرًا إلى ما مثلته من تجاوز للقانون، وإلغاء للدستور، واستخدام الأحكام الشرعية سلاحًا غير محدد الوجهة.
وفي كتاباته الأخرى مثل "حوار حول العلمانية" و"الملعوب" وغيرها، تأتي كتابات فودة تحمل طابع السجال السياسي نفسه، فإن كان في ظاهرها الفكر والدين، ففي باطنها معركة سياسية يشنها ضد جماعات الإسلام السياسي، بما فيها معاركه فيما يخص فوائد البنوك، أو ما يسمى بالزي الإسلامي، الزي عمومًا وبخاصة زي النساء، جاءت كلها ردًا على مشروع سياسي رآه فودة خطرًا على أمن مصر.
هذه الحرب، على أهميتها، تحمل في باطنها أهم الثغرات التي أصابت الفكر العلماني، أو الإصلاحي، منذ بدايته في عهد محمد علي باشا، حتى الآن، وهي، كما يقول د.نصر أبو زيد في كتابه "النص والسلطة والحقيقة" الانطلاق من مشروع سياسي يحمل بين جنباته المشروع الفكري، حيث يؤدي ذلك إلى أن "يدخل الفكر في دائرة التبرير بالقدر الذي يتباعد به عن مهمته الأساسية، وهي التحليل والتفسير".
أما الجانب الثاني، فهو نقد الخطاب الديني بآليات الخطاب الديني نفسها، أي نقد النتائج دون الوقوف على المقدمات التي أفضت إلى هذه النتائج. وفودة إذ ينقد الفكر الديني الساعي إلى العودة إلى 14 قرنًا خلت، يتوقف أمام هذه القرون بصفتها انقضت، وليس بصفتها كانت تحمل البذرة التي منها نمت الثقافة العربية والإسلامية، وكونت العقل والذاكرة الجمعيين.
هذه المسألة هي التي تفرق بين فودة وبين أبي زيد؛ حيث راح الأخير يغوص في تاريخ الفكر الديني، مشيرًا إلى بداية تكوينه، والآليات التي تكون من خلالها، كما فعل في "الإمام الشافعي وتأسيس الأيدولوجية الوسطية"، الذي يفكك من خلاله بنية الخطاب الديني، وبناءه، مبينًا النقطة التي انطلقت من خلالها "سلطة النصوص"، وتوسيع مصادر التشريع، من القرآن الكريم، والمؤكد والصحيح والمتوافق مع القرآن من السنة، لتشمل السنة بمعناها الأوسع، الذي لا يقتصر على الأحاديث فقط، بل ويمتد إلى كل قول وفعل قام به النبي، بل ويتسع ليشمل أحاديث الآحاد، وما سمي بعد ذلك بإجماع الأمة، ليصير كل ذلك، بإقرار بشري، هو الدين.
هذا الجانب هو الذي جعل فودة يقف من التراث موقف المحلل المستخرج للدلالات فقط، في حين وقف أبو زيد موقف المتشكك، مزيلًا كل قدسية عن التراث، الذي هو بشري بطبيعة الحال، حتى لا يقع في مغالطة نقد خطاب بالاحتكام إلى مرجعيته.
هذا الجانب هو الذي جعل فودة لا يرى أزمة في وجود أحد رجال الأزهر بجانب مرشد جماعة الإخوان المسلمين، اللذين رغم الاختلاف السياسي، فإن الأرضية الفكرية، كما يقول أبو زيد، مشتركة، وإن اختلفت الأشكال السياسية.
في كتابه "قبل السقوط" يرد على القائلين بضرورة تطبيق الشريعة بأنها بالفعل مطبقة في مصر، مشيرًا إلى المادة الثانية من الدستور المصري، وهو إذ يقر بذلك يقع في معضلة، حسب أبو زيد، معضلة الإقرار بالحاكمية، ففي "النص والسلطة والحقيقة" يشير أبوزيد إلى مغالطة يقع فيها التيار المدني عن غير قصد، والديني عن قصد، وهي الإقرار بشمولية النصوص، وهو قبول أن تكون النصوص الدينية شاملة لكل شيء قادرة على التدخل فيه والحكم عليه وتحديد أطره، وهو، تحديد الشمولية، المسمى أو الشكل القديم لمبدأ جديد عرفناه في العصر الحديث هو "الحاكمية".
تأتي هنا إذن الإجابة عن السؤال المطروح آنفًا، وهو: لماذا فودة وليس أبا زيد؟ الإجابة هي السياسة، كان فودة خطرًا على مشروع سياسي وليد، يخطو خطوات واسعة ويحقق انتصارات هائلة لعوامل متعددة، في حين كان أبوزيد يواجه مشروعًا فكريًا متجذرًا من مئات السنين، اتخذت قواعده وأصوله نوعًا من القداسة، هذه القداسة التي حولت نتاجًا بشريًا إلى أصول لا يمكن الخروج عنها، ولا يأتي بعدها سوى شروح على متون، ثم شروح على شروح.