لأول مرة منذ قرون عديدة.. توقف رسومات الحج علي جدران منازل الصعيد | صور

في مثل هذه الأوقات من كل عام بعد وقفة عرفة، يكتب رسام الحج في الصعيد في مفكرته الشخصية، بيان المنازل المنوط به أن يقوم بتنفيذها، يبدأ الاتفاق قبل استعداد الحاج لرحلته، بينما يكون التنفيذ علي حسب اختيار أهل المنزل، منهم من يفضلها بعد رجوع الحاج، خلال وقت استقباله للمهنئين بالرجوع سالما، ومنهم من يفضلها قبل رجوع الحاج.

هذا العام غابت مفكرة الرسام الفطري للحاج، وتوقفت الرسومات لأول مرة منذ قرون عديدة، وأصبحت المنازل القديمة التي ضمت الرسومات منذ قرون والتي تركها أصحابها، هي فقط الباقية لتدل علي أنه كان هنا رسام وحاج في زمن مضي، فيما لم يتم تنفيذ رسومات جديدة علي الجدران، سوي في مظاهر الأفراح الشعبية فقط.

كل قرية لها تقاليدها في اختيار تنفيذ رسوم الحج، فمحافظة أسوان وقراها مثلا تفضل الرسوم القديمة المعتمدة علي الطرق القديمة في جيل المحنكين، الذين يضعون زاويا الرسم من خلال خيالهم الفطري، والذين لهم القدرة علي تطويع الرسم ليتماشي مع البناء الطيني والجبلي للمنازل، محافظة قنا وقراها تعتمد علي الجيل الحديث الذين يينفذون باستخدام زواية الكمبيوتر، بسبب غياب الفنانين العظام، وبسبب انتشار المنازل الأسمنتية.

العم "أحمد ياسين على حسين" الرفيق الشهير بالعم "عيد السلواوي" من قرية "سلوي بحري" التابعة لمحافظة أسوان بجنوب مصر، من أشهر الرسامين الذين يتقنون فن الرسم مُنذ أكثر من 50 سنة، من خلال ريشة مصنوعة من طالع النخيل، كما يطلقون عليها في الصعيد "جرباحة"، اقتطعها من نخيل نوع بلح "سكوت".

يقوم "عيد السلواوي" بقطع جزء من جريدة النخيل، ويدق على طرفها بالحجر، ثم يتركها في الماء لمدة أسبوع لتصبح جاهزة لاستخدامها في الرسم، ومن خلال تلك الريشة رسم كثيرًا على المنازل بالصعيد، وأبرز رسوماته، صور مناسك الحج التي رسمها بدقة، المتمثلة في الكعبة والمساجد والرحلة المقدسة، كما صَوّر الأفراح والعرس الشعبي ورسومات المضايف "المندرة "، وكذلك سباقات الخيول التي لها الشيوع الأكبر في الصعيد.

يقول "طه" نجل الفنان "عيد السلوي" والذي يساعد والده، في حديثه لـ"بوابة الأهرام": هذا العام فقط توقفت الرسومات منذ أول مرة، وأصبحت قاصرة علي المظاهر الشعبية في قري أسوان، وذلك بسبب أزمة فيروس كورونا المستجد، وبسبب اقتصار الحج علي المقيمين بالمملكة العربية السعودية، مؤكداً أن الذي قام بتنفيذه مع والده هذا العام، هي رسومات الأفراح فقط.

وتوضح الدكتورة "منال محمد مبارك" في دراسة جامعية عن القيم التشكيلية للرسوم الجدارية، إن رسومات الحج علي المنازل القديمة تساعد علي نشر الوعي الثقافي، مؤكدة أن الرسام في الصعيد مثل أجداده الفراعنة، كان ينقش علي الجدران والمنازل ليسجل وقائع التاريخ، وليسجل مشاهدات الشريعة التي يعتنقها، كما يقوم بالتوقيع بإمضائه وتسجيل الوقائع بالتاريخ الزمني، مما يجعل دور الفنان كبيرا في رسومات الحج.

وتوضح "منال مبارك" أن هناك ارتباطا وثيقا بين خصائص التصوير الشعبي والرسوم الفطرية التي تعبر عن مشاهد الحياة اليومية داخل المجتمع، وهو مانراه في الرسومات القديمة علي حوائط منازل الصعيد، مؤكدة أن بعض الرسومات تحتاج لفهم أيضا، فالرسام القديم كان يرسم طفل الحاج الصغير وهو كبير يمارس مع أقرانه لعبة العصي وسباق الخيول، بل كانت الرسوم تصوره كجندي يقاتل الأعداء، وهي الرسومات التي ظهرت في حرب أكتوبر المجيدة 1973م، فالرسام صمم أن يجعل شخصيات الجدران تقاتل مع الجنود علي الجبهة.

"خشم باب النبى جلسنا رباعة والطواف يقولى منين ياجماعة، خشم باب النبى جلسنا سوية والطواف يقولى منين يا صبية".. هكذا كان يدون الرسام الأغاني الشعبية علي الجدران، يقول "أنس عبدالقادر" الذي جمع سيرة الفنانين القدامي في تصريح لـ"بوابة الأهرام": إن لكل منطقة وناحية ما يميزها ويخصها عن المناطق الأخرى، لأسباب ترجع لثقافات تختلف عن مثيلاتها، والرسام يعبر عن تنوع الثقافة، لذلك كانت الرسومات للحج قديما تعتمد علي ذكر القصص الشعبية للأولياء الصالحين، وعلي رسم القطارات والسفن، كما كانت تدون قصة سيدنا إسماعيل، ووالده إبراهيم عليهما السلام.

وأوضح "أنس عبد القادر" أن دفعة المعلمين القديمة المتخرجة في خمسينيات القرن الماضي، كان لها دورها الكبير، حيث ظهرت مجموعة من الرسامين والخطاطين الذين اهتموا بالكتابة والرسم معا، وكانوا يكونون فريقا للعمل، منهم من يكتب، ومنهم من يرسم، مؤكداً أنه يتمني أن تعود رسومات الحج العام المقبل لتساهم في نشر الجمال والوعي الثقافي في الصعيد.