لمدة 7 سنوات قام الفنان والباحث أنس عبدالقادر بجمع أسماء رسامي الحج القدامى، الذين كانوا يستخدمون البيض والجير لتدوين رسوماتهم، كما دون أسماء الفنانين الذين نقشوا أسماءهم وأشعارهم على الأعتاب الخشبية، واختار مدينة دشنا شمالي قنا مثالًا للتدوين ليصدر بحثه في كتاب شخصيات من دشنا في طبعة شعبية.
موضوعات مقترحة
يؤكد أنس عبدالقادر أن الفن هو القاسم المشترك في الحضارات المصرية المتلاحقة بداية من الفن الفرعوني والقبطي والإسلامي، وتأثرت هذه الحضارات بعضها بالبعض الآخر، ومن أهم هذه الفنون الحفر على الخامات مثل الحجر والخشب وغيرهما في شوارع دشنا القديمة، وكذلك في القرى نجد بعض الواجهات الخشبية التي تم الحفر عليها بالكتابة والنقوش، التي تمثل زخارف بسيطة من أشكال هندسية ورموز دينية، ومن هذه الواجهات ما كتب عليها أبيات من الشعر والحكم، كما كتب عليها اسم صاحب المنزل وتاريخ البناء، وترجع بعض هذه التواريخ إلى أواخر القرن الـ19 الميلادى، وهي الأعتاب التي كان لابد من تدوينها قبل أن تندثر بالهدم وإقامة منازل بالأسمنت بدلًا منها.
عن الحج والفنانين، يؤكد أنس عبدالقادر أنه قبل سفر الحاج بفترة يأتي المطوف من الحجاز، وكان يمكث في مراكز قنا، من بينها مركز دشنا، وكان يقطن مدة تتراوح بين 20 يومًا وشهر يدعو الحجاج للإقامة لديه فى مكة والمدينة، ومن المطوفين الذين كانوا يأتون دشنا "محمد عربي السقاط" و"عمر خوقير"، وكان يسكن بشارع العزة بمكة، وكان رجلًا وقورًا يتمتع بالبشاشة والتواضع وكان يأتي معه ابنه "عبد العزيز" الذى أصبح وزيرًا، وكان المطوفون يتعرفون على الحجاج بمكة ليأتوا إليهم بعد ذلك.
تقول الأغنية الشعبية "خشم باب النبى جلسنا رباعة والطواف يقولى منين ياجماعة، خشم باب النبى جلسنا سوية والطواف يقولى منين يا صبية"، وكانت الرسائل للحاج ترسل على عنوان المطوف ومنه ليد الحاج. إذا سافر الحاج واستقل قطار الحجاج، وبعد أن يقوم بزيارة الأولياء يقوم أهل بيته بدهان البيت بالجير وتزيين البيت بالرسوم، وكان لكل منطقة من يقوم بهذه المهمة، ففي منطقة الصعايدة بمدينة دشنا كان الفنان ويدعي خلاف يقوم بدهان البيت بالجير، وكان يأتي بالجير الحي ويطفئه داخل برميل، وكان يضع البيض النيئ أثناء فوران الجير داخل البرميل فيستوي البيض ويتعجب الناس منه، وكان دهان البيت ورسمه يكلف 3 جنيهات عام 1949.
أخبرني والدي أن جدي حج في عام 1949م - كما يضيف الفنان أنس عبدالقادر - حيث رسم والدي الرسوم فى البيت وكان يقوم برسم الرسومات على ورق، ويقوم بعض الذين يقومون بدهان البيوت ولا يجيدون الرسم بتخريم الرسمة لعملها "إسطمبة"، ومن الرسومات التى تثير التعجب شجرة بها كم كبير من الثمار من كل لون وصنف وعندما يسأل الناس الرسام عنها يجيب "هذه شجرة ألف صنف وصنف".
كانت الرسوم تتناول ما يقوم به الحاج من طقوس مثل الحاج راكبًا الحصان والجمال وسفينة الحجاج، وكانوا يطلقون عليها (الزعيمة) وقطار الحجاج، والنعامة، والبندقية والحمامة والمسجد والكعبة وغيرها من الرسوم.
ويكشف أنس عبدالقادر أن من الحجاج من رسم الرسومات بنفسه بعد عودته من الحج مثل الحاج فتح الله عبدالله السمان، والذى رسم نفسه على حصان بلون أحمر وكتب أبياتًا من الشعر صاغها الشاعر عسر عسران يهنئه فيها بعودته من الحج، وكان ذلك عام 1959م، وكان بعض الشعراء يهنئون الحجاج بالعودة شعرًا، مثل الشاعر أحمد بكري محمد الأمين شاعر قرية نجع سعيد ومأذونها، وكان يؤرخ المناسبة بحساب الجمل.
مرت رسومات الحج بعدة مراحل كما يؤكد أنس عبدالقادر، ففى البداية كان الرسام من الفطريين وكان معظمهم لا يجيد القراءة والكتابة، ولذلك ظهرت رسومًا من غير أية كتابات، وكان بعضهم يجيد القراءة وكان يكتب تحت كل رسمة ما تدل عليه أو أسماء الأشخاص الذين رسمهم، وكان الرسام يسأل أهل المكان عن الذي يجيد ركوب الخيل فيرسمه ويكتب اسمه، وعن أفضل من تزغرد من النساء فيكتب اسمها تحت الرسمة التى ربما لا تشبه شكلها، وهكذا يضع الأسماء تحت الرسوم.
أما الخامات المستخدمة فى الرسم فهى من الأكاسيد (مسحوق لون) والبيض للتثبيت وبعض الماء للتخفيف وأحيانًا يوضع قليل من السكر ليعطى الإشراق واللمعان للون، وكان أكثر الألوان استخدامًا اللون الأزرق المصنوع من الزهرة (النيلة) واللون البني، وكان البعض يرسم بالزهرة فقط .
أما الفرش فكانت تصنع يدويًا من شعر الماعز وتثبت في خشبة، وفي بعض البلاد تستخدم فرشاة من الجريد الذي تستعمل ألياف طرفه كفرشاة، وهذه هي الطريقة التي كان يستخدمها الفراعنة في التلوين، وقد رأيت في المتحف المصري بعضًا من هذه الفرش المصنوعة من الجريد، ومن الرسامين من لم يستخدم الفرشاة ولكنه كان يستخدم إصبعه في الرسم مباشرة بعد غمسه في اللون.
من الرسامين الفطريين كان "عبد المجيد عبدالجليل سرور" وكان يلقب بالخرومي، وكان نقاشًا وتوفى عام 1975، وكان لكل منطقة وناحية ما يميزها ويخصها عن المناطق الأخرى لأسباب ترجع لثقافات تختلف عن مثيلاتها، ففى منطقة الصعايدة بدشنا كان يطلب من الرسام رسم تمساح لارتباطه بقصة حدثت مع الشيخ السنجق المدفون فى مقامه المعروف هناك، وهذه القصة تقول أن طفلا التقمه التمساح فى النيل فقام الشيخ بإحضار الطفل من فم التمساح راكبًا على ظهره ومعه الطفل كما أمر التمساح أن يعوم على ظهره فى المنطقة التى يسكنها، وكتب حفيد الشيخ القاضي محمد الأمير العمراني قصيدة تتحدث عن كرامات جده، وهذه القصيدة يبدأ أول كل بيت بحرف وتكون جملة (جدي أحمد السنجق) وجاء فى البيت الذى يبدأ بحرف اللام ويذكر هذه الواقعة : لتمساح بحر راكباً وكذا ضبع يربطه فى البيت يرضى ولايجرى.
أما عن الرسامين في القري فيوضح أنس عبدالقادر أنه في عزبة الألفى بدشنا كان الرسام محمد عبده وهو من مواليد الإسماعيلية سنة 1947 وعاد لدشنا مع أسرته عام 1956 يرسم وجوه الحجاج لأنه يمتلك هذه الموهبة، وأخبرنى أن سبب تنميته لهذه الموهبة فى رسم البورتريه أنه عندما كان تلميذًا في المرحلة الابتدائية بعث برسالة للرئيس جمال عبد الناصر يطلب منه صورة فوصلت له الصورة ومعها عبارة (وصلتنى رسالتك الرقيقة المعبرة عن شعورك النبيل) وتم تسليم الصورة له فى طابور الصباح وكان فرحا للغاية، فبدأ برسم صورة الرئيس نقلا من الصورة التى أرسلها إليه، ومن هنا قويت لديه القدرة على رسم الأشخاص وبعد تعيينه كمعلم سنة 1969 كان يشارك فى المعارض الفنية التى تقام فى مديرية التربية والتعليم والإدارة، ومن الرسوم الأخرى التى رسمها الرقص بالعصا والمزمار البلدى وغيرهما، ومن الأشياء التى رسمها "رشاش سبية" بثلاثة أرجل يحمله فلسطينى بكوفيته المعروفة، وبعد رسمها جاءت الشرطة للبحث عن هذا الرشاش الذى لم يكن موجودا سوى على جدار البيت كرسم فقط.
فى بعض الأماكن قد يطلب من الرسام رسم النسر أو النمر أو الأسد الذي يحمل سيفا فى يده والاهتمام بالرسم أكثر من الكتابة، وبعد تخرج دفعات من دار المعلمين بقنا أواخر الخمسينات ظهرت مجموعة من الرسامين والخطاطين الذين اهتموا بالكتابة والرسم معا، وكانوا يكونون فريقا للعمل منهم من يكتب ومنهم من يرسم، وكان معهم أحد العمال بمدرسة عمر بن الخطاب الابتدائية وهو السايح عباس رحمه الله، وكانت مهمته ملء الخطوط التي يكتبها الخطاط بالطباشير على الجدار.
ظهرت فى بداية الثمانينات الألوان المائية الجاهزة فى علب بلاستيكية وكان يطلق عليها الألوان البلاستيك ( مثبتات اللون) واختفت رويدا رويدا الأكاسيد وأصبح الخطاط يستخدمها لسهولة استعمالها، غير أن الألوان الجاهزة هذه كانت تبهت بعد فترة وربما تختفى تماما، خاصة اللون الأحمر وكان الخطاط والفنان راشد يعيد تلوين الأحمر كطبقات بعضها فوق بعض وحين يسأله الناس عن ذلك يقول (حتى لا تحلب) ويقصد بذلك حتى لا يختفى اللون مع مرور الوقت، أما الألوان المصنوعة من الأكاسيد والبيض فإنها كانت تقاوم التغير ولا تتغير، ومع مرور الوقت أصبح الخطاط يرسم داخل مساحة محدودة صنعت من الجص (الجبس) داخل برواز وكان يكتب ويرسم عليها بالألوان مباشرة أو بعد دهانها بطبقة من اللاكيه إذا كان الخطاط سيستخدم الألوان الزيتية فى الكتابة والرسم.
كانت الباخرة تمثل أهمية كبيرة للحجاج هذا ما يكشف عنه الفنان أنس عبدالقادر، فإذا تحركت الباخرة واهتزت يشعر الركاب بالخوف (ركبت الزعيمة ورنت صفاها متخافيش ياحاجة دا جوزها فى قفاها)، والزعيمة هى الباخرة التى تحركت فاهتزت الحلى التى تضعها الحاجة على ضفائرها، والتي يطلق عليها (صفاها) ولكن زوجها الذى يصطحبها لرحلة الحج يسندها فيمنعها من السقوط، وإذا كان معها ابنها تبدل الأغنية بولدها أو أخوها إن كان معها وهكذا (حلت الزعيمة ورنت حلقها متخافيش ياحاجة دا ولدها سندها).
ثم يأخذ الركاب أماكنهم على ظهر الباخرة ويشعرون بالراحة بعد أن تسير وتأخذ مجراها وتستقر على سطح الماء، لتقول الأغنية (فوق كراسى الباخرة حرير بالوقية – عملوه مفسح يابا لركوب الصبية – فوق كراسى الباخرة حرير بالوقايا عملوه مفسح يابا لركوب الصبايا) وفى عرض البحر ينظر الراكب فلا يجد سوى لجة كبيرة من الماء من كل جانب فلا يرى الأرض سوى دائرة هائلة من الزرقة، وربما تتعرض الباخرة لبعض الرياح أو تأتى الغيوم فيخاف الحجاج وينادون (ياريس البواخر مال الموج داعالى) فيطمئنهم بأنه قبطان خبير ومتمكن (متخافوش ياحجاج أنا ريس قرارى) (ياريس البواخر مال الموج مضلم – متخافوش ياحجاج أنا ريس معلم)، والخوف من الرياح والموج العالى ذكره ابن جبير فى كتابه "رحلة ابن جبير في مصر والحجاز" حيث كان يصمم الرسام علي رسم الباخرة وكتابة "ريس البواخر".
رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل رسومات الحج ونقش الاعتاب بالمنازل