Close ad

مأوى الغياب.. رحلة منصورة عز الدين من "براح العدم إلى ضيق الكلمة"

2-12-2018 | 19:22
مأوى الغياب رحلة منصورة عز الدين من براح العدم إلى ضيق الكلمةالمتتالية القصصية مأوى الغياب - منصورة عز الدين
أميرة دكروري

​تفتش منصورة عز الدين عن الغرض من الأدب، داخل "واحة التيه"، تنفذ إلى عقول الكُتّاب، إلى عوالم القص في أدمغتهم، لتنظر علاقتهم باللغة وبالواقع والخيال، كيف ينفصلون عن العالم أو ينفصل العالم عنهم؛ يتخلصون من ثقل أجسادهم علي تلك الصخرة "الزلقة"، ويحلقون بعيدا إلى عالم اللامكان واللازمان، حيث لاشيء يقيني، ولا يستطيع المتواجد في هذا العالم -مهما حاول- أن يعرف عن ماضيه شيئًا.

موضوعات مقترحة

"لا ينتمي إلى مأواي هذا إلا أصحاب العقول المراوغة، عاشقوا الغموض والالتباس، من يحدسون بخطو الأشباح في صمت الليل، ويقدرون الأوهام، ويحتقرون الحقائق، من يؤمنون بالخيال ويقدسون الأوهام و الضلالات"، هكذا تحذر عز الدين قارئها، في القصة الأولى من متتاليتها القصية الأحدث "مأوى الغياب"، قبل أن تصحبه في رحلة غرائبية، لا يقين فيها، إلى جغرافيا -تتضح معالمها بتتالي القصص- ذات عناصر ثلاث أساسية: الماء المتمثل في النهر الذي يشبه البحر في هياجه، والجبل، والغابة التي تحوي الأشجار وخاصة الجميزة. ذلك الثالوث هو أساس القصص ومحور خيالات الراوي، فكل منهم يخبر قصته ويكشف لنا أسراره في حكايات منفصلة كشخوص أصيلة بالمتتالية.

يعتمد بناء المتتالية عدة مستويات سردية، حيث يمكن النظر إلى المتتالية ككل، كرصد لصراع قائم بين الإله تحوت وربة الطلاسم المغضوب عليها، التي تحاول إثبات أن عالم ماقبل الكلمات هو الأصلح، حيث لا يصل للحقيقة سوي رائي حقيقي يستطيع فك الطلاسم وفهم الرموز، وينكشف ذلك الصراع من خلال الراوي الذي يتخفف من ثقل جسده في القصة الأولى ويجد نفسه كغيره من اللذين لا يراهم، مجذوبا لكشف ما يوجد بالضفة الأخرى، لفك رموز الطلاسم ليصل لصاحبة الهمس الدائم في أذنه و المتلاعبة بخيالاته.

تبدأ القصة الأولى بالتمهيد لعالم الكتاب الفانتازي، وفي القصة الثانية يتخفف الراوي من جسده، وتحوله صخرة المصير إلى نواة في سديم وضباب دون ذاكرة أو يقين، فلا يدرك حتي حقيقة وجوده من عدمها، وتتعاقب القصص التي يحاول من خلالها الراوي إدراك حقيقته، وتتشابك خيوط المتتالية حتي تصل لذروتها، ومن ثم تبدأ في التحلل والوضوح للقارئ.

وعلى الرغم من تضافر القصص جميعًا في بناء كامل يرصد الصراع السابق، فإن القصة المفردة تكتمل في ذاتها، وتحمل فلسفتها التي تحيل إلى عدة تأويلات تراوغ ذهن القارئ، ففي القصة الأولى "مدينة الهلاك" تتطرق عزالدين لعوالم الخيال عند المبدع، فنشاهد بعين الراوي الكُتاب الذين تستعصي عليهم الكلمات ويحاولون كلٌ علي طريقته شحذ قاموسه في عالم بلا كلمة ولا معنى، فحتى وإن حاولوا الكلام لن يفهمهم أحد، وستبدو كلماتهم مجرد همهمات غير مفهومة، وآخرون وقعوا سجناء قصصهم وعالمهم الخيالي وأبطالهم أمثال كافكا وبورخيس وشولتز، تقتحم هذه القصة عالم الكتب ومؤلفيها، حيث تشكل قراءاتهم وعيهم بطريقة ما، فلا حاضر ولا ماضي سوى ما تبقي في الذاكرة من تلك القراءات.

أما القصة الثانية "صخرة المصير"، فتلتفت الكاتبة بشكل متأن للموت ودوره في حياة الكاتب، ما يجعلنا نعود للاقتباس الذي كتبته في أول صفحات الكتاب، والتي تمهد به عالم المتتالية، عن جاك دريدا "ذلك أن إله الكتابة هو أيضًا وبتلقائية إله الموت"، تلك ذاتها الفكرة التي انضوت عليها تلك القصة، حيث تشبه الحالة التي ينفصل فيها الكاتب عن روحه، الموت الذي يُغيّب جسد الإنسان ويطلق لروحه العنان، فترى ما لايراه البشر وهم حبيسوا أجسادهم.

يسيطر الهلاك علي كل المدن التي يرصدها الراوي، وفي القصة الثالثة يكشف كيف يغير الدمار الناس، بحيث لم يعد يأمن أحدهم الآخر، الجميع متجهم يكتفي بمراقبة الآخر، فيما يتغافلون عن الفظائع التي ترتكب من حولهم وفي حقهم، فتلك المدينة التي تبدو آمنة تجعل كل من ينظر إليها يشحذ الذاكرة ويتعرف عما دار بها، فالأماكن خير مدون للتاريخ و للنكبات مهما تكاثرت، ومهما طال زمنها وحاول البعض محو تاريخها، حتى لو ارتدت تلك المدينة زورا ثوب الصلاح و التمدن، فالباطن يظل محفورا بين ثناياها، وما يلبث أن ينكشف لأول مستكشف مخلص وصادق، فطيف الذين عاشوا لايغيب وحكايات الأشجار لا تنضب: "الأمر لا يتعلق بمهارة مفترضة فيَّ، بل بالمكان نفسه، إذ شحذ ذاكرتي وجلا بصيرتي ومنحني عينا ثالثة مكنتني من رؤية ماوراء الظاهر: أرتني الركام الكامن في ثنايا الحوائط القائمة والبيوت المسقوفة وساعدتني علي تبين غبار الهدد والتحطم حيث العمران، قال لي المكان دون كلمات منطوقة: "لا وجود لجغرافيا بريئة، الأرض محملة بما جري فوقها من فجائع، أحشاؤها حبلي بطبقات من الغام الذاكرة".

وتكمل عز الدين حكايتها عن أشلاء المدن وهلاكها بالقصة التالية "جبل الغيم"، فيها نجد الفلسفة حاضرة بطريقة ملحوظة، فلسفة الصعود والمعرفة فكلما ارتفع المرء درجة وازداد معرفة يزداد الخبل ويتضح جنون العالم وفظائعه، وحينما يصل لقمة الجبل يتباين شكل العالم كليا وتتبدل جغرافيته، تظهر بوضوح حروبه التي لا تهدأ وبساتينه المحترقة والأسلحة المتناثرة لن يستطيع الرائي التفريق بين الخيال والحقيقة، فالأزمة تكمن ف المعرفة حيث يخبرنا الراوي: "خطيئتي أنني رأيت، عبرت الخط الفاصل وأبصرت الوجود عاريا مهلوسا وبلا معني".

وهكذا تستمر الكاتبة في رحلتها، التي تحتمل كثيرًا من التأويلات، فتثير عددًا من التساؤلات من "براح العدم إلى ضيق الكلمة وحبسها بين دفتي كتاب". وقد حضرت الميثولوجيا الفرعونية بقوة خلال القصص الأخيرة وامتزجت بجدارة بالخط المتتالي للقصص، ففكرة النقش علي الحجارة والجداريات وذكر حورس وإيزيس و تأثيرات تحوت عليهم وعلي غيرهم، كان هو الأساس الذي كشف العقدة المترابطة بالقصص.

وقد يشعر القارئ أن هذه الكتابة الغرائبية التي صيغت بأسلوب سردي ولغوي مميز، وكأنها تجسيد لأفكار المؤلفة، فيشعر أن الفصل الأخير "طلسم أخير" هو خلاصة أفكارها التي طرحتها على مدار 15 قصة، تركت لخيالها العنان خلالهم وأدخلت القارئ معها في تلك المتاهة محاولة العثور علي يقين غير موجود.

وبرعت عز الدين في استخدام التشبيهات التي كانت في محلها معظم الوقت، ونجحت في جعل القارئ منتبها إلى النهاية رغم الغرائبية، ليظل مدفوعًا لحل التشابك القائم بين القصص، محاولة الوصول مثله مثل الرواية إلى الضفة الأخرى.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: