Close ad

أحمد فضل شبلول يكتب: محمود سعيد وبنت بحري

7-2-2018 | 13:37
أحمد فضل شبلول يكتب محمود سعيد وبنت بحريمحمود سعيد وبنت بحري

حلاوتهم بنت بحري لديها تطلعات خطيرة، ترغب في أن تكون مثل الفرنسية مدام دي بومبادور، وعلى الرغم من أننا ضحكنا على سؤالها، عندما رأت لوحة فرانسـوا بـوشيـه وسألت: كيف أصبح مثلها؟ إلا أنني في الحقيقة وجدتها فرصة كي أستثمر تطلعاتها وطموحها، فأعمل على تعليمها وتثقيفها، كي تكون موديلًا مثقفًا، وليست مجرد امرأة تقف أو تنام أمامي كي أرسمها، أريد أن أتجاوز بها اللوحات العارية التي رسمتُها من قبل في هذا المرسم في الأعوام 1922 و1932 و1933، وبخاصة لوحة "الزنجية" التي رسمتها العام الماضي بالألوان الزيتية على أبلاكاش.

موضوعات مقترحة

بالتأكيد ثقافتها ستنعكس على ملامح وجهها الأسمر الرائق، فتكون بحق إحدى ربات الحسن والجمال المصري التي أتطلع لرسمها. أما ست الحسن، ففي وجهها وقوامها طابع الحسن فعلًا، وقد ألقى عليها الحبُّ ملامحه الحزينة الشفيفة. كانت تذوب وجدًا وهيامًا وهي تغني أغنية سيد درويش "أنا هويت وانتهيت".

كان فيلم "وداد" للآنسة أم كلثوم يُعرض لأول مرة في دور العرض السينمائي، وأعرف أن به قصة حب بين وداد والتاجر الشاب باهر (الممثل أحمد علام) وبه ثماني أغنيات جميلة من ألحان الشيخ زكريا أحمد، ورياض السنباطي، ومحمد القصبجي، وكلمات شاعر الشباب أحمد رامي، عدا أغنية واحدة من شعر الشريف الرضي.

فكرت أن أعزمهما على الفيلم الذي كان يُعرض في سينما "رويال" بجوار "تياترو محمد علي" والذي افتتح عام 1921 في محطة الرمل متفرعًا من طريق الحرية.

قلت لهما: هل تحبان السينما؟

- طبعًا يا بيه.
- إذن سأعزمكما على الفيلم الجديد "وداد" للآنسة أم كلثوم المعروض في سينما "رويال"، وبه أغنيات جميلة.

وافقتا على الفور، ولكن اشترطتا أن يكون في يوم آخر، وتكون حفلة من 3 إلى 6 فهما لا يسهران خارج البيت.

أطلت حلاوتهم من شرفة المرسم، فرأت أمامها محل شيكوريل الشهير، فسال لعابها، وقالت: أنا نفسي من زمان أدخل هذا المحل، كل مرة أمر بجواره. عندما أجيء إلى شارع سعد زغلول أقف أشاهد الفترينات، وأتسمّر أمامها، ولا أجرؤ على الدخول إليه.

قلت لها: بسيطة، ننزل الآن وندخله. فرحتْ فرحًا شديدًا، وقالت: هيا بنا.

- هل تعلمين أن صاحب محلات شيكوريل بالقاهرة والإسكندرية الخواجة مورينيو شيكوريل، قد قُتل عام 1927 في بيته بالقاهرة؟

- لا والنبي لا أعرف. من الذي قتله، ولماذا؟

- قال لي صديقي القاضي محمد مظهر بك رئيس التحقيقات في تلك القضية الشهيرة التي كتبت عنها الصحف والمجلات وقتها، إن سائقه اليوناني الجنسية آنستي خريستو هو الذي قتله بمساعدة آخرين، بهدف سرقة أمواله ومجوهراته. فقد كان الرجل ثريًا ويطمع فيه كل من حوله. قاموا بتخديره هو وزوجته، وعندما بدأ يتنبه ويقاومهم قاموا بقتله.

لم تعلق ست الحسن على ما سمعت، ولكنها قالت - ونحن نعبر شارع سعد زغلول إلى الرصيف الآخر، الذي به محل شيكوريل - إن الجو جميل جدًا اليوم فهو أدفأ من أمس، والشمس ساطعة في هذا النهار، والشارع نظيف ويلمع، ثم نظرت إلى السماء، وقالت: لا توجد سحب اليوم، يعني لن تمطر.

كنت أرتدي بذلتي ذات اللون البني الغامق، وهما ترتديان الملاءة اللف السوداء فوق ملابسهما. لم يتعود العاملون في شيكوريل رؤية النساء اللواتي يترددن على المحل وقد لبسن الملاءات اللف، وأخذوا ينظرون لي وهما في صحبتي، وينظرون لهما.

العاملون في شيكوريل يعرفونني جيدًا، فأغلب ملابسي وملابس زوجتي أشتريها من هنا، وأحيانًا يتصلون بي ليبلغوني أن هناك بضائع جديدة وصلت إليهم من باريس وروما ولندن، فعلى الرغم من أن الخواجة سولومون شيكوريل يهودي إيطالي، فإن بضائعه يستوردها من المحلات الشهيرة بالعواصم الأوروبية كلها.

كنتُ أنظر بطرف خفي إلى انفعالات وجه حلاوتهم ولمعة عينيها السوداوين، وهي تشاهد وتمسك الأقمشة والملابس المستوردة، وكأنها تراها لأول مرة في حياتها. أحيانًا كانت تضع القماش على جسدها وتأخذ رأي ست الحسن التي لم تكن في شراهة حلاوتهم، فتقول لها: جميل عليك، أو تقول: لونه جميل، أو يجنن، وتتركها لترى أقسامًا أخرى بالمحل الواسع.

أحيانًا كانت حلاوتهم تشم رائحة الأقمشة والفساتين، كما لو كانت تشم رائحة الأسماك وأم الخلول في حلقة الأنفوشي، لتعرف هل هي طازجة أم من ليلة الأمس؟

همستْ في أذني: محمود بيه.. أنا أريد هذا الفستان والفلوس التي معي لن تكفي!

هذا ما توقعتُه منها عندما رأيت شراهتها، وقلت لها: المهم أن يكون على مقاسك!

- سأدخل حجرة المقاسات وأقيسه، لكنه يجنن.. أليس كذلك؟
- هو كذلك بالفعل!

عادت ست الحسن من جولتها بالأقسام الأخرى من المحل، وسألتني عن حلاوتهم، فأخبرتها أنها تقيس أحد الفساتين، وسألتها عما إذا كان تود شراء شيء من هنا؟
ست الحسن ليست مثل حلاوتهم. خجلت مني وقالت: شكرًا يا بيه!

- إذن سأختار لك شيئًا على ذوقي. ما رأيك في تلك الحقيبة، إنها من الجلد الطبيعي.
- فعلًا جميلة وشيك جدًا وأنا أحب هذا اللون.. كثر خيرك.

من داخل حجرة المقاسات نادت حلاوتهم على ست الحسن لتأخذ رأيها في فستانها. ثم عادتا والفستان على جسم حلاوتهم يكاد ينطق بروعة هذا القوام، ويظهر تفاصيل لم أتبينها من قبل.
هكذا اكتمل الجزء الخاص بحلاوتهم في اللوحة، سأرسمها بذلك الفستان الذي يكشف عن جمال أخَّاذ وقوام مصري لين ورائع (مثل الملبن) يجمع بين طول القامة السمراء المنصوبة كالصاري وتناسقها وسيقان أسطوانية ممتلئة تشبه أعمدة المعابد الفرعونية.

ستكون حلاواتهم في منتصف اللوحة تمامًا، وعلى يسارها ويمينها الوصيفتان ست الحسن وأخرى لم أستقر عليها بعد. ولكن لا بد لي من رسم الملاءة اللف السوداء التي تتميز بها بنت بحري. سأجعل الملاءة اللف سوداء خفيفة جدًا أو شفَّافة تكشف بوضوح ما تحتها من ملابس. وبذلك أكون جمعت بين الملاءة والفستان في ضربة واحدة.

أما غطاء الرأس فسأجد له حلًا تشكيليًا، حيث كانت حلاوتهم وست الحسن تضعان "المدوَّرة" على رأسيهما طوال صحبتي لهما، فلم أتبين ملامح الشعر ولونه وكيف تكون قَصًّتُه.
دفعت فاتورة الفستان والحقيبة النسائية، وأجرى لي محاسب شيكوريل خصمًا معقولًا، لأنني زبون دائم عندهم، وغادرنا المكان، وإذا بي أواجه صديقي القاضي محمود عبدالوهاب على رصيف شيكوريل، فلم أستطع الفرار منه.

كان ذاهبًا إلى "ديليس" – على بعد خطوات من شيكوريل - وأصرّ على عزومتي على فنجان قهوة. قلت له: معي ضيوف!

قال: ضيوفك ضيوفي. ونظر إليهما مليًا، وفهم أنهما من الموديلات اللائي أستعين بهن في رسم لوحاتي.

أوضحت له أنهما ليس مثل أي موديل، وأنني لم أستعن بهما بعد، أي أنهما ليستا محترفتين في المهنة، حتى لا يظن بهما الظنون.

يبدو أن حلاوتهم وست الحسن يدخلان "ديليس" لأول مرة، فقد كانتا تتطلعان إلى المكان مدهوشتين من نظافته واتساعه وتناسق موائده وابتسامة العاملين فيه من الجرسونات وزيهم المميز. أخبرتهما أن هذا المكان الجميل أسسه الخواجة اليونانى موستاكاس عام 1907، وكان خبازًا ماهرًا للخبز الأفرنجى، لحين قرر أن يُدخل الآيس كريم لمدينة الإسكندرية ويبتكر نكهات جديدة فيه، مثل الفاكهة والمستكة، التي كانت جديدة على المواطنين ونالت إعجابهم، وفى عام 1922 أصبح أشهر حلواني بالإسكندرية وأدخل الشوكولاتة والملبس والكعكات الغربية، التي كان يأتي إليها المواطنون خصيصًا لتناولها، وأسماه "ديليس" وهي تعني البهجة والمتعة، كما قالت له صديقته الفرنسية التى كانت تعيش بالإسكندرية "إنه مبهج للغاية".

أصرت حلاوتهم على ارتداء فستانها الجديد، بعد أن خلعت ملاءتها ووضعتها على أحد الكراسي بجوارها. أخذت ست الحسن معها وتوجها إلى حمام السيدات. غابتا قليلًا، فسألني محمود عبدالوهاب من أين حصلت عليهما؟

أنا غالبًا لا أحب الحديث مع أصدقائي عن مفردات عملي الفني، ممكن أن نتحدث عن المحاماة والقضايا والملفات الشائكة دون أن نذيع أسرارًا في تلك الملفات قد تضر أحد الخصوم. ممكن أن نتحدث عن أحوال البلاد والعباد، وأحوال البورصة والأسعار وما إلى ذلك، ولكن أن أتحدث عن أسرار فني ولوحاتي وماذا أرسم الآن، وفيم أفكر وأتخيل، وبمن أستعين من موديلات وألوان وغير ذلك من أسئلة أصدقائي الفضوليين، حقيقة لا أحب ذلك، مثلما لا أحب الحديث عن أسرتي وأهل بيتي وزوجتي.

محمود عبدالوهاب يعلم ذلك جيدًا، ويعلم أنه عندما اختير والدي محمد سعيد باشا رئيسًا لوزراء مصر مرتين؛ الأولى من 23 فبراير 1910 إلى 5 أبريل 1914 والثانية من 20 مايو 1919 إلى 10 نوفمبر 1919، لم أحدث أحدًا مطلقا من أصدقائي في هذا الأمر، وكانوا يعلمون بذلك من الجرائد والمجلات أو المذياع، ويقومون بتهنئتي، فأشكرهم على مشاعرهم، وأنهي الكلام بسرعة في هذا الأمر. لم أعوّل في يوم من الأيام على أن والدي رئيس وزراء أو حتى وزير أو مسئول كبير في حكومة الخديوي عباس حلمي الثاني، ثم حكومة السلطان فؤاد الأول الذي أصبح ملكًا بعد ذلك.

حاولت أن أغير اتجاهات حديث محمود عبدالوهاب، قبل أن تأتي حلاوتهم وست الحسن من حمام السيدات، فناديت على قارئة الكف التي تمر يوميًا على "ديليس" في تجوالها. أعطيتها كفي فنظرت لها ولي مليًا، ثم قالت: ستصير عظيمًا ويتردد اسمك على كل لسان، وستموت في يوم مولدك.

لم أفهم العبارة الأخيرة "ستموت في يوم مولدك" واعتبرت الأمر مجرد دعابة أو مزحة، ونقدتُها بعض القروش، فانصرفت، وهلَّت حلاوتهم في كامل بهجتها وأناقتها بعد أن لبست الفستان الجديد، فسال لعاب محمود عبدالوهاب، وقال لها: ما كل هذا الحسن والجمال، أنا سأحدث صديقي المخرج السينمائي محمد كريم لتمثلي في فيلمه القادم.

تدخلتُ فورًا قائلًا: الحسن هنا عند ست الحسن ذات الصوت الرائع، وبخاصة عندما تغني لسيد درويش. طلب منها أن تغني، ولكنها كانت خجولة جدًا. ولم تستجب لطلب محمود عبدالوهاب.

أردت أن أفسد طبخة محمود فقلت: أظن أنكما تأخرتما اليوم. سأوقف لكما تاكسي ليوصلكما إلى مكان بيتكما. وحددنا ميعادًا آخر للقاء في المرسم.
سألت حلاوتهم: والسينما؟

لم أفهم أتقصد وعد محمود عبدالوهاب بالتمثيل في السينما بعد أن يحدث صديقه المخرج محمد كريم، أم تقصد وعدي لهما بالذهاب إلى سينما "رويال" لمشاهدة فيلم "وداد"؟
نحيت الأمر الأول جانبًا، وقلت لها: تعاليا مبكرًا إلى المرسم، ثم ندخل السينما في اليوم نفسه.

أوقفت تاكسي في شارع سعد زغلول، ونقدت السائق الأجرة المتوقعة حتى الأنفوشي، وعدت إلى محمود عبدالوهاب الذي لامني على سرعة صرف المرأتين. قال معاتبًا: لماذا تريد أن تبعدني عن حلاوتهم؟

- أنا لا أبعدك، ولكنهما فعلًا تأخرتا عن العودة إلى منزلهما. إنهما معي منذ الصباح.

أراد أن يعرف شيئًا عن المرأة التي اختارها للسينما، ولكني لم أعطه عقادًا نافعًا. فقال في إصرار: أنا عندي وعدي لها وسأحدث محمد كريم عنها، وسيطلب رؤيتها، هل لديك مانع؟

- ليس عندي أي مانع، ولكن المانع قد يكون عندها هي.
- أنت تعرف أن لدي حاسة اكتشاف المواهب السينمائية، مثلما لديك حاسة الرسم والتلوين والتشخيص على اللوحة.
- أعرف.
- أنا واثق أن حلاوتهم ستكون قنبلة الموسم السينمائي القادم، فهي بنت بلد أصيلة، والسينما المصرية تحتاج إلى هذا النوع الآن، وربما يحتاج الأمر إلى اختيار اسم فني آخر.. "حلاوتهم" (مش قوي).
- استشر صديقك المخرج ربما تصلان إلى اسم فني جديد.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة