Close ad

عروسة وحصان

15-12-2017 | 13:06
عروسة وحصان عروسة المولد
رءوف جنيدي

على وقع أقدام حصانى، التى لم أسمع نقرها حتى الآن، ومن فوق صهوته، التى لم أمتطها يومًا، وعلى دقات قلب عروس، ما رأيتها يًوما تجلس الى جوار عريسها، كانت تحملنا أقدام غضة عفيفة.. طاهرة المقصد والمسعى، لنطوف دروب بلدتنا وأزقتها خلف (عم عبده) بائع حلوى المولد.

موضوعات مقترحة

كان عم عبده يدفع أمامه عربة خشبية متهالكة، تدب قدماه على الأرض من خلفها دبيبًا رتيبًا هادئًا، وتصدر عجلاتها، على لحن خطاه، صريرًا متقطعًا من أروع سيمفونيات الزمن الجميل، وقت أن كان يتراقص عليها حصانى، وتتمايل عليها العروس، التى كانت تضمها شقيقتى الصغرى بين أحضاني.

وحينًا فحينًا، كان عم عبده يتوقف بعربته قليلًا، ثم يرفع كفيه إلى خلف أذنيه، وينادى بصوت عالٍ شجى طويل (حلاوة زمان)، ملوحًا بوجهه، موزعًا نداءه على الخلائق يمينًا ويسارًا، لنلتف نحن من حوله بنينًا وبنات، مرددين من خلفه فى كورال طفولى برئ، وبألسنة مازالت على فطرة الله: (عروسة - حصان).

عندها يرفع الولد منّا حصانه، والبنت عروستها إلى أعلى، ليؤكد كل منّا لرفاقه أن الأغنية ما كتبت إلا لحصانه الذى يمتطيه فارس مغوار، أو لعروستها التى تزينت وتجملت، وكأنها إحدى حوريات الجنة، وكنّا مع كل وقفة من وقفات عم عبده، يسرع منّا من أنفق كل نقوده إلى بيته، فيعود بقرش أو قرشين آخرين، ليشترى واحدًا من تلك الطراطير زاهية الألوان، وقد رصها عم عبده هى الأخرى رصات مغريات.

بدأ يداعب النسيم قصاصات ورقية مزخرفة، تتدلى منها، فتصدر شخللات تشاغل عيوننا البريئة، وتراقص قلوبنا خضرًا بين جوانحنا، فمنّا من كان يعود، والفرح يتقافز فى عينيه، ومنّا من كان يعود بدموع ضارعة إلى الله أن يرزق أهليهم.

كبر الولد منّا وصار رجلًا، تزوج عروسًا، غير التى كانت فى يد أخته، أو التى ما زالت فوق عربة عم عبده، تلك العروس التى كنا نراها ملء السمع والبصر، كنا نراها أجمل ما وقع عليه اختيارنا وقتها، ولم لا ؟! وهى الأولى التى ليس قبلها، والأخيرة التى ليس بعدها فى الجمال، الذى كنا نبصره بعيون قانعة غير طامعة.. ولم لا ؟! وهى التى كلما سمحت لى أختى بتذوقها، وجدتها حلوة المذاق.

وكبرت البنت أيضًا، وصارت زوجة، وما حظيت بفارس أحلامها، الذى كان يمتطى حصان أخيها، مرتديًا زى فارس مقدام.. ممسكًا بزمام حصانه فى إباءٍ وشمم، ذلك الفارس الذى تفتحت أنوثتها على طيفه، وراحت تتأمله، وتأمله.. وقت أن كان يوقفه أخوها على الأرض، ويهزه أمامها، وكأنه يكر ويفر فى ميدان قلبها، وفى ساحة وجدانها.

صار الولد أبًّا، ماعاد المذاق الحلو يرطب فمه، بعد أن جف حلقه جفاف أيام جدبى، لا تعرف اللين، دارت فوق جسده طاحونة الحياة لتهرس عظامه بين فكيها، وقد أخفت الهموم من ذاكرته تلك العروس، التى كان يظن أنها ستبقى جميلة حلوة المذاق مدى الحياة.

وصارت البنت أمًّا بكل أعباء الكلمة وأحمالها، ذهب عنها فارس الأحلام، الذى رسمته براءة الطفولة يومًا فى عينيها.. حل مكانه أب كادح مكافح، يسعى على قوت عياله ليل نهار، فقد أبلاه الزمن، وأذرى به الدهر، و ما عاد ممشوق القوام كما كان، بعد أن انخلع عنه زى الفرسان، وألبسته الدنيا ثوب الشقاء والمعاناة، فبالكاد كان الرجل يحسن هندامه.

بقى فى صدرى طفل، كبرت أنا، وهذا الطفل لم يكبر.. كبرت أختى، وطفلتها لم تكبر.. بقى الطفل فى صدرى يعادينى.. يقاضينى.. يساءلنى فى غضب ودهشة : لماذا أخرجته من موكب عم عبده، وجئت به إلى هنا ؟! رفض الطفل أن يرافقنى.. سحب يده من يدى، واستدار عائدًا للخلف.. ما راقه من الدنيا ضجيجها، ولاصراع أهلها.. فهذا يقاتل كى يمتلك مساحات أوسع من الأرض، وهذا يحارب ليكمل بناء عماراته الشاهقة، وهذا يلهث خلف الزمن ليزيد من مدخراته البنكية.. عاد الطفل يطوي بساقيه أرضًا واسعة.. يتسلل من بين عمارات شاهقة.. عاد، وكل أمله أن يكون والده قد رزقه الله بقرش، أو قرشين، يشتري بها طرطورًا مزينًا، أسوة برفاقه عاد باكيًا، وقد اهتزت الدنيا أمام دموعه، وتضاءلت.

يتلفت الطفل يمينًا ويسارًا. يبحث عن الطفلة التى سمعها تناديه من صدر أخته. وجدها. أمسك بيدها. سألته فى براءة : "أخي.. أين حصانك وأين عروستي؟!".. قال: "سنبحث عنهما حيث تركناهما.. فى حارتنا.. فى بيتنا.. حيث كان يقف عم عبده بعربته.. عدت أنا وأختى الى الماضى مسرعين، لأنظر إلى الدنيا بعين الفارس الأحمر، ولتنظر أختى إليها بعين العروس الجميلة، ولنلحق من جديد بموكب عم عبده بائع الحلوى، لنطوف معه دروب البلدة، وأزقتها.. مصفقين بكفوف رقيقة كأوراق الشجر.. مرددين على رجع صوته، وبألسنة بريئة، أنشودة الأمل، وأغنية الزمن الجميل لحلوى المولد النبوى الشريف: "حلاوة زمان.. عروسة حصان.. وآن الأوان... تدوق يا وله"

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة