Close ad

الخيول المتعبة لم تصل بعد

1-11-2017 | 12:05
الخيول المتعبة لم تصل بعدلوحة للفنان الأمريكي فالنتينو كويانو
علي السباعي

‏-لا تقاطعيني، فأنا لم أنهِ كلامي بعد.‏

موضوعات مقترحة

قالها هارون الرشيد غاضبًا، نظر كمن يتوجس خيفة بعيني (دموع) ‏السوداوين، ظنت دموع أن عاصفة من الغضب آتية في الطريق إذ كان ‏يتناهى إلى مسمعها صوت رياح عاتية، الشمس - لأول مرة- تراها دونما ‏ألق، بادرها الرشيد قائلًا:‏ ‏تغير الزمن يا دموع. وتغير هارون، كا...‏

قاطعته وفي عينيها صرخة احتجاج تصدر من أعماق أتعبها عزف ‏موسيقى تتجول أصداؤها في جوف امتلأ بالأسى:‏ نعم! تغير هارون، ظهر بدلًا منه ملايين الرجال الذين يدعون بـ ‏‏(هارون).

يجيبها وصوته يسابق صوت المطر الذي أخذت تتقيؤه السماء، وكأن ‏هذه السماء خيول متعبة أضناها الجري فبدأت تتقيأ ما التهمته من صراخ ‏الخليفة:‏ ‏ليس هارون وحده الذي تغير، بل كل التقاليد والعهود، الأحاسيس ‏والإنسان الشجر والأغصان، السحابة والمطر، السجان والسجين. آه، كل ‏العواطف تغيرت، حتى البحر تغير. والرشيد وسط ذلك كله يقف على ‏الساحل وحيدًا بلا مركب، بعد أن رحلت كل المراكب.‏

تختلط أصداء العواطف مع صهيل خيول العاصفة، تناهى إلى مسامع ‏دموع التي بدت كأنها مساء ساحر اختلط فيه أنين (داخل حسن) مع صهيل ‏خيول متمردة تنبثق من أعماق التاريخ، أصواتها سياط تلهب جسد الريح –‏الزمن سجن- ذيول الجياد سياط تلسع عصافير أسقمها حبسها، تنظر إليه ‏مكتشفة في بريق عينيه عالمًا من التساؤلات، عالمًا من الرغبات المكبوتة ‏والأحاسيس المرهفة، والأفكار السجينة، مجموع ذلك كله يشكل نهرًا دفاقًا ‏من السعادة- السعادة التي إذا ما مرت فوق عشب يابس أخضر ونما، قالت ‏دموع وصوتها عذب كالسعادة:‏ ‏مولاي الخليفة. اصنع لنفسك مركبًا وسأكون شراعك المتين!

‏سألها الرشيد بحزن لم تعهده:‏ ‏أنبحر في شريان الدم رغم كل القتل الذي يجتاح الدنيا؟

تجيبه:‏ مولاي، إن حياتنا قصيرة، عندما يمر بنا مركب الزمن فلن يتوقف، ‏ولا يعود.‏

يضحك بحزن قائلاً:‏ دموع، إنك حلوة كما الدنيا.‏

يدخل حاجب الخليفة متمنطقًا بسيفه، قال بعدما أدى تحية الولاء:‏ ‏مولاي، هناك أمير ينتظر المثول بين يديك. لكن...

يبادره هارون ‏الرشيد:‏ لكن، ماذا؟

يجيب الحاجب متلعثماً بكلماته مهابة لمولاه:‏‏ هيئته، منظره، ثيابه كلها لا تدلل على كونه أميرًا، بالإضافة إلى ‏ذلك...

يقاطعه الخليفة مغضبًا:‏ بالإضافة إلى ماذا أيها الحاجب؟ تكلم.‏

يجيبه الحاجب بتلكؤ:‏ يا مولاي الخليفة، إنه، عفوك، لا يرتدي خفًا!‏

استغرب الرشيد قول الحاجب، بدا وكأن الوقت –الزمن- قد سحقه وأثقل ‏عليه، تساءل في نفسه: أيكون هذا الزي الذي يدعيه الحاجب خاصًا بملوك، ‏وأمراء عصر غير زماني هذا؟ قال بشدة: دعوه يدخل.

مثل نهر مهتاج تدفق الأمير على ديوان الخليفة، لم ينحن لمولاه الخليفة، ‏نظر بعينيه الزرقاوين الصافيتين كبحر أزرق، وقال:‏ أنا أمير يا دموع! أنا عبد الا...‏

يقاطعه الخليفة حانقًا:‏ تحدث معي يا أمير، ألا تعلم أنك تقف في حضرة الرشيد؟ أمير أي بلد ‏أنت؟ من أين أتيت؟ وهل أمراؤكم يرتدون زي الشحاذين يا...؟

يضحك الأمير بسخط حتى تعالت قهقهاته، كأنها العاصفة التي بدأت ‏ترعد خارج القصر، أضاف الخليفة: ما الذي يضحكك؟ تكلم!.

ما زالت كل براكين الأرض خامدة لا تستعر. لكن بإمكان شرارة ‏صغيرة أن تجعل الأرض تتنفس بعمق فتزفر جهنم إلى الخارج، بهذا تغرق ‏الأرض في بحر من الحمم المستعره، تساءل الأمير:‏ دموع! كيف يعيش الإنسان وسط أنهار الدم وبرك القتل؟ كيف؟

بادره الرشيد وقد استبدت به كل ثورات الغضب:‏ إنك تصر على تجاهلي يا هذا.

قاطعه الأمير مخاطبًا دموع:‏ أصبحت خرائطنا مرسومة بالدم بعد أن قتلت أحاسيسنا، أفكارنا التي ‏نحيا بها، ماتت التقاليد يا دموع. ماتت التقاليد.‏

يستشيط الخليفة غضبًا، بادره بالصراخ طالبًا من الحاجب الحضور:‏ أيها الحاجب، أيها الحاجب، تعال إلى هنا لكي تخرج هذه القمامة ‏من هنا بسرعة.‏

نطقت العيون الزرقاء، تحدث الجسد الهرم قائلًا:‏ دموع، إن الإنسان يهرب من تعاسته بالقتل. لكن الطيور بإمكانها ‏الهرب من كل شيء دونما اللجوء إلى القتل، حياتنا لو كانت ثمنًا لراحة ‏العالم، سنمنحها لهم، وهذا غير جائز معك يا أميرة، فمثلك شفافة، حلوة، ‏تشبهين التفاحة النضرة، صعب أن تمنح حياتك من أجل... آه... حياة ‏الآخرين!‏

يأتي الحاجب ومعه الجلاد بسوطه، يأمرهما الرشيد بإخراج الأمير من ‏ديوانه، باءت جميع محاولات إخراجه بالفشل، عاد الأمير الشيخ يتحدث ‏لدموع، كأنه لا يرى غيرها في هذا الديوان، والعالم كله أصبح دموعًا، قال ‏وصوته كصوت البحر إذا أزبد وأرغى:‏ لقد علمتني الدنيا...‏

تقاطعه، وقد امتلأت بالحزن كما يمتلئ قدح الماء فتفيض جوانبه:‏ من أنت؟ ما بالك ترتدي الأسمال البالية؟ ما لي أراك تحمل ثلاثة ‏أكياس؟ ما الذي تلف به رأسك بدل العمامة؟ ما الذي تضعه على أنفك؟

جاءها صوت الأمير باردًا عاصفًا:‏ أنا من تقرّحت قدماه من السير فوق خرائط الدم، أنا عبد الأمير ‏الشحاذ، أرتدي الأسمال البالية لأنها زي كل الفقراء يا مولاتي. أحمل ‏الأكياس الثلاثة معبأة بالأواني الفارغة، والقناني، لأنها عدة كل أمير ‏لحفلاته، الذي أضعه على أنفي قطعة من القماش تجعلني استنشق هواء نقيًا ‏لأن هواء الدنيا كلها يزكم أنفي لما فيه من نتانة يا ملكتي.‏

عصف صوت الخليفة كمدفع في الديوان، أطلق قذيفته، سقطت أمامه ‏وحدث الذي لم يكن بالحسبان:‏ ‏شحاذ... أيها الوغد… أيها الحاجب خذه وأطح برأسه.‏

----

علي السباعي

(كاتب من العراق)

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة