ينقسم ديوان "أحلام كرتون" للشاعر تامر أنور إلى ثلاثة أقسام: حفلة الأطفال، وقريبا، والعرض، وكلها عناوين تتصل بالفن السينمائي مباشرة، وهذا هو ما يميز ديوان تامر أنور عما عداه من دواوين شعرية أخرى بالعامية المصرية.
موضوعات مقترحة
وإذا أردنا أن نتتبع الظاهرة السينمائية في أشعار هذا الديوان فسوف نتوقف أولا عند عنوانه "أحلام كارتون" الذي يحيل إلى أفلام الكارتون، وكأن الشاعر أزاح "أفلام" ووضع مكانها "أحلام"، وكأن الأفلام أحلام، والأحلام أفلام، وهي كذلك بالفعل، فعندما نرى فيلما أو شريطا سينمائيا فكأننا نرى حلما ملونا (أو أبيض وأسود) يمر أمامنا.
ولكنها ليست أي أحلام أو أي أفلام، إنها أحلام كارتون، ما يحيل إلى عالم الطفولة وأفلام الكارتون المحببة للأطفال كثيرا في عالم السينما، لذا يأتي القسم الأول تحت عنوان "حفلة الأطفال" والتي نرى المشهد الأول فيها "نظرات" عبارة عن حوارية سينمائية شعرية بين الطفلة الصغيرة وأحد الدببة؛ ومن المعروف أن هناك علاقة حميمة بين الأطفال والدببة منذ الصغر فهي تُهدى إليهم كألعاب في أشكال وألوان مختلفة، فيحتضنون الدب/اللعبة ويعاملونه كأنه صديق حميم، فينام بجانبهم على السرير، وما إلى ذلك من مظاهر احتفالية طفولية.
ولكن الأمر ليس كذلك عند تامر أنور في تلك الحوارية الشعرية، حيث نرى علامات الخوف على وجه الطفلة التي تزور الغابة وتلتقي الدب، فيسألها: خايفة؟ ولكن قبل أن نسترسل مع القصيدة، نتوقف عند هذا السؤال المكون من كلمة واحدة يعقبها علامة استفهام: "خايفة؟" لنتأكد أن هناك سابق معرفة بين الطفلة والدب، وكأن هذا الدب هو الذي كان يعيش في كنف تلك الطفلة ثم لسبب ما غادرها وعاد إلى الغابة مرة أخرى بعد أن تخلص من صوفيته أو قطنيته أو المادة التي يصنع منها الدب اللعبة، لذا يتساءل هذا الدب الصديق الذي عاش بين البشر من قبل:
ايه جابك في الغابة
وانتي
بالنسبالنا فريسة.
ولكن يتضح لنا بعد ذلك أن الدب هو الذي يخاف من الإنسان وليس العكس، فالدب عادة هو الخطر على الإنسان عندما يعتبر هذا الإنسان خطرا على صغاره، أو كمنافس له على طعامه. ولكن هنا في القصيدة الدب يخاف من خداع الإنسان وكذبه، ويقول للطفلة:
"كنت بافكر آجي معاكي
بس أنا عمري
ما حعرف اكدب"
وهو ما يدل دلالة أكيدة على معرفة الحيوانات بسلوك البشر وخداعهم، وإن هذا الحيوان يخشى على نوعه وسط البشر، بعد ان خبر حضارتهم "الفالصو":
عالم تاني ورا الغابة
وحضارة فالصو
ويبدو أن فكرة "الحضارة الفالصو" التي تحمل الخداع والزيف تلح على الشاعر فيتحدث عن "القشرة الفالصو" في القصيدة الثانية "الجميلة والوحش" - وما زلنا في إطار العالم السينمائي والصورة السينمائية وهو ما يؤكده عنوان القصيدة الذي هو عنوان أحد الأفلام الكارتونية للأطفال – والقشرة الفالصو هنا ليست قشرة الحضارة كما رأيناها في القصيدة السابقة، أو كما قال عنها نزار قباني في "هوامش على دفتر النكسة": "لبسنا قشرة الحضارة / والروح جاهلية"، ولكنها الكذب الإنساني الذي يطل من العينين والذي يؤدي أيضا إلى زيف الحضارة، فما الحضارة إلا صناعة إنسانية.
وتظهر في قصائد تامر أنور فكرة النوع الإنساني أو النوع الحيواني، كما رأيناها في قصيدته "نظرات" التي تحدث فيها عن الدب كنوع حيواني، وتتأكد هذه الفكرة أكثر في قصيدة "أنواع" التي يقول في مطلعها:
"وبطبِّل على صدري
واقولك طظ
أنا آخر واحد من نوعي
بُصيلي كويس
تكويني غير تكوينكم"
فهل هذه الفكرة تتماس مع نظرية أصل الأنواع والانتقاء الطبيعي لدى تشارلز داروين؟
وما يلفتنا في هذه القصيدة في تماسها مع العالم السينمائي الذي يتكئ عليه الشاعر في هذا الديوان، هو تيمة أو لفظة "طظ" التي اشتهرت في السينما المصرية على لسان الفنان حمدي أحمد (محجوب عبدالدايم في فيلم "القاهرة 30" إنتاج عام 1966 والمأخوذ عن رواية نجيب محفوظ "القاهرة الجديدة" ومن إخراج صلاح أبوسيف)، ويكرر الشاعر هذه الـ "طظ" في قوله:
"ف الأرض بتاعتي تلاقي ونيس
لكن طظ"
وأيضا يكرر في نهاية القصيدة قوله:
"وبطبل على صدري
وأقولك طظ".
وتدل هذه "الطظ" على روح اليأس والعدمية واللامبالاة التي تصيب الفرد أو المجتمع، والتي وصل فيها الشاعر إلى قوله:
"بَهدّ المشهد فوق الكل
بدمر كل التفاصيل اللي تخصك
برميها
وارميكي معاها"
أما في القصيدة التي اختار الشاعر عنوانها ليطلقه على اسم الديوان "أحلام كارتون" فيبدو فيها ذلك العالم الطفولي الذي ينتمى إلى ألف ليلة وليلة وسندريلا، يقول:
"ف معادك جيتي
وانا كنت براقب صوت الساعة والجنيّة
انا بس الليلة حبقى أمير
وأكيد حختارك من بينهم
ولا واحدة حتقدر تدخل ف قصايدي
غيرك
فستانك طبعا مسحور
وأكيد الجزمة"
إننا أمام مشاهد سينمائية يقدمها لنا الشاعر تأخذنا إلى عوالم مشهدية مختلفة من تراث الحكي الشعبي "الجزمة بترقص وحديها" التي تجعلنا نعيش حالة من السحر والغرابة يحكمها الزمن، وخاصة الساعة 12 ليلا التي تعلن نهاية يوم وبداية يوم جديد، وبالتالي نهاية قصة وبداية قصة من قصص ألف ليلة وليلة أو قصة سندريلا التي ستجري عند دقات الساعة معلنة نهاية اليوم، وكالعادة تترك سندريلا فردة جزمتها للأمير، ليبدأ رحلة البحث عن تلك الفتاة العجيبة التي تتداخل حكايتها مع حكايات ألف ليلة وليلة.
وتطل علينا القصص الكارتونية "سنوايت والأقزام السبعة" من خلال قصيدة "امتلاك" والتي يستهلها الشاعر بقوله:
"مكانوش 7
انتي لوحدك
عارفة عددهم
ومحدش فيهم شاف التاني
مكانونش أقزام
لكن عينك
مش بتشوف الحلم كويس"
وهنا نجد أن الشاعر لا يعيد إنتاج القصة المعروفة، ولكنه ينقضها أو يخالفها، أو يزيحيها ليقدم لنا رؤية مغايرة للحكاية المعروفة فيقول:
"بالنسبالك
أنا واحد منهم
بس الفرق
إني لوحدي"
وهو واعٍ تماما لهذا النقض أو المغايرة، أو هو الصوت الآخر الذي من خلاله نكتشف عوالم أخرى للحكاية:
"الجنيّة ..
كدبة كبيرة من تأليفك
علشان تتداري في وسطيهم"
إذن فما نراه على الشاشة أو في أفلام الكارتون ليس هو الحقيقة دائما، ولكن هناك رؤى أخرى مغايرة يطرحها الشاعر، وإذا كان للمخرج السينمائي الحق في تغيير بعض وقائع الرواية المكتوبة بما يتناسب مع رؤيته الفنية، فأيضا للشاعر الحق في تقديم رؤى أخرى للحكايات التي استقرت وتعارف عليها الجميع سواء سنوايت أو سندريلا، أو أليس في بلاد العجائب أو حتى ألف ليلة وليلة أو غيرها. وهو دائما ينتقل بين الحكايات والأفلام التي شاهدها الجمهور عارضا رؤى أخرى من خلال وسيط أدبي آخر أو نوع أدبي آخر هو الشعر العامي، ومن هنا تأتي سر دهشة قصائد تامر أنور الذي يقول:
"أنا آسف جدا
الفيلم بتاعك طوّل
وانا مطلوب
ف الحواديت التانية"
إنها حواديت وحكايات وأحلام من عالم الكارتون السينمائي التي يفعِّلُها الشاعر تامر أنور في قصائده ليمتزج الخيال الشعري بالخيال السينمائي طارحا أساليب شعرية جديدة في عالم الشعر العامي المصري.
في القسم الثاني من الديوان وهو بعنوان "قريبا" نجد إلى جانب التماس مع الأفلام السينمائية، تماسا مع عالم الفن التشكيلي من خلال قصائد مثل "جرافيتي":
"الولد الميت
كان عايز يرسم صورتك
جوه القبر
حياة
ملقاش ألوان
شاف شَعره الأبيض
قرر يرجع
ويكمل موت".
هنا نجد أفكارا أخرى تطل من خلال القصيدة، تتمثل في استغلال طاقة الرسم في التعبير الشعري، فالرسم حياة، ولكن الإحباط يسيطر على الشعور لعدم وجود ألوان البهجة والسعادة والحياة، حيث لا يوجد سوى اللون الأبيض (لون الشَّعر هنا) وإذا كان الأبيض يرمز للطهارة والصفاء والنقاء والسطوع والوضوح والسكينة والطمأنينة والسلام، فإنه يشير - من ناحية أخرى - إلى مفردات المرض والموت مثل: الكفن وسرير المرض والملاءات وأردية الأطباء وتاج الحكيمات، وأقراص المنوم وأربطة الشاش والقطن ... على نحو أجاد تجسيده الشاعر أمل دنقل في قصيدته المعروفة "ضد من" حينما قال:
في غُرَفِ العمليات،
كان نِقابُ الأطباءِ أبيضَ،
لونُ المعاطفِ أبيض،
تاجُ الحكيماتِ أبيضَ، أرديةُ الراهبات،
الملاءاتُ،
لونُ الأسرّةِ، أربطةُ الشاشِ والقُطْن،
قرصُ المنوِّمِ، أُنبوبةُ المَصْلِ،
كوبُ اللَّبن،
كلُّ هذا يُشيعُ بِقَلْبي الوَهَنْ.
كلُّ هذا البياضِ يذكِّرني بالكَفَنْ!
ولكن في قصيدة "كاريزما" نجد لونا آخر عند تامر أنور هو اللون الأصفر، حيث يتجسس الحبيب على لون أحلام حبيبته الأصفر في قوله:
"يتجسس على لون أحلامك
الأصفر
يمكن يلقى طريقه
يوصل بيها لقلبك"
لماذا الأصفر؟ هل لأنه لون الذهب والشمس، وهما الطريق إلى قلب الحبيبة، أم لأنه يرمز إلى لون الخديعة والغش، وربما يكون هذا أيضا طريقا الى قلب الحبيبة عن طريق خداعها وغشها؟ أم لأنه لون التوهج والإشراق وهما أيضا طريق ثالث إلى قلب تلك الحبيبة، ولكن هذا الولد الحبيب المسكين:
"لو مرجعشي قوام للضل
قبل شروقك
ح ي م و ت"
إذن الأرجح أن اللون الأصفر في قصيدة "كاريزما" هو رمز التوهج والإشراق، وهو أيضا لون زهرة عبّاد الشمس التي تستدير مع استدارة الشمس.
هنا نجد لعبة الظلال والألوان في الفن التشكيلي، أو الظل والضوء كما هو معروف في المدرسة التأثيرية التي تعبر عن تأثير شروق الشمس على اللوحة كما نجدها في لوحات الرسام الفرنسي كلود مونيه على سبيل المثال.
إذن تحيلنا قصائد تامر أنور إلى عالم الفن التشكيلي مثلما تحيلنا إلى عالم السينما، أو فلنقل بوجه عام تحيلنا إلى عالم الصورة سواء الصورة السينمائية أو الصورة التشكيلية.
ولكننا في قصيدة "حدوتة قبل الموت" نجد عالما آخر هو عالم الروائح في قوله:
"أنا معدوم الريحة"
وعلى الرغم من أنه ينفي وجود الريحة، فإننا نشم العطور بقوة في تلك القصيدة التي يبدؤها بقوله:
"الوردة
لو خدنا منها العطر
تموت
عطرك
متعتق جوه الأحلام
وأنا بجري اطارده في آخر شارع
جوه العمر
وكلابك
مش عارفه تجيبني
أنا معدوم الريحة"
انعدام الريحة هذه يحيلنا مباشرة إلى فيلم أو رواية "العطر .. قصة قاتل" لباتريك زوسكيند، حيث يكتشف غرنوي – بطل الرواية وخبير الروائح والعطور - وهو على قمة جبال سنترال في منطقة "أوفيرج" الفرنسية، وفي الهواء الطلق النظيف الخالي من أي رائحة بشرية ـ أنه ـ شخصيا ـ لا رائحة له، فيجن جنونه، وتبدأ رحلة عذابه، التي قام خلالها بقتل خمس وعشرين فتاة في عمر الورود، ويمتلك جسدهن رائحة خاصة تعد من أذكى الروائح البشرية في العالم.
طبعا لا يلجأ بطل قصيدة تامر أنور إلى القتل، ولكن الحيرة تتلبسه بعد أن أنهى قصيدته عن العطر فيقول:
"الوردة
لو خدنا منها العطر
تموت
خلّصت قصيدتك لكن
مش عارف اكمّل
باقي ديواني إزاي؟!
لنكتشف أن قصائد الشاعر الجديدة بعد تلك القصيدة محكومة أيضا بقصة العطر، فعدم وجود رائحة العطر يعني عدم وجود القصائد، وبمعنى أكثر اتساعا وشمولا عدم وجود تلك الحبيبة في الحياة، بل عدم وجود الحياة نفسها، ويعني اعتلاء الموت مشهد الوجود والعدم.
وتأكيدا على حضور الفن التشكيلي بقوة في هذا القسم من الديوان نجد قصيدة بعنوان "موناليزا" ونرى باليتة الألوان، ولون الشَّعر، وحضور المدرسة التأثيرية بقوة، من خلال الشمس وتأثيرها القوي مع أنها "كانت رافضة تخش الأوضة بقالها سنين"، ومن خلال النور "لون شَعرك كان رامي النور على وش اللوحة التانية".
وفي تلك القصيدة يلعب دخان السجائر دورا تأثيريا وخاصة في قول الشاعر:
"مش عارف ليه كل ما ادخّن
دخّاني بيرسم
موناليزا"
ولعلنا نتساءل ولماذا "موناليزا" على وجه التحديد، لماذا لا يرسم الدخان صورا أخرى لنساء أخريات مثل "ليدي ليليث" للفنان الإيطالي دانتي غابرييل روزيتي، أو "جيوفانا" للرسام الإيطالي غيرلندايو التي أراد لها أن تكون امرأة مثالية داخل اللوحة.
ربما لأن الشاعر أراد أن تكون عينا موناليزا هما البؤرة التي تدور حولها القصيدة، فيقول:
"واما مشيتي
سيبتي عنيكي ف قلب اللوحة"
ويقول:
"عينك
مش عايزة تسيبني
مع اني بحاول اهرب منها"
ونحن نعرف أن التقنية التي استخدمها ليوناردو دافنشي في رسم عيني موناليزا هي سر خلود تلك اللوحة، حيث نجد أن عينيها تنظران إليك من أي اتجاه، أما "جيوفانا" على سبيل المثال فهي تتخذ وضعا جانبيا فلا تنظر إلينا، و"ليليث" امرأة شبه أسطورية ترمز للأنثى التي تتمتع بالجمال والذكاء والقوة، ولا نجد فيها ذلك الانكسار والضعف الذي نلاحظه على وجه موناليزا.
وربما هذا الانكسار والضعف البادي على وجه موناليزا هو الذي أوحى للشاعر أن يطفئ دخان سيجارته في عينيها في قوله:
"سامحيني
مضطر اطفي سجارتي
ف عينك"
ترى لو حاول اطفاء سيجارته في عين "ليدي ليليث" على سبيل المثال، ماذا ستكون النتيجة؟
هنا نجد التعالق قويا بين الشعر والفن التشكيلي بطريقة لم أجدها في القصائد التي قرأتها من قبل في كتاب "قصيدة وصورة .. الشعر والتصوير عبر العصور" للدكتور عبدالغفار مكاوي (سلسلة عالم المعرفة الكويتية العدد 119).
أما الجزء الثالث والأخير في ديوان "أحلام كارتون" لتامر أنور فيحمل عنوان "العرض" وفيه يعود إلى عالم السينما مرة أخرى لنجد قصائد تحمل عناوين "نهار خارجي" و"كواليس" التي نجد في مطلعها تماسَّ مع فيلم "معبودة الجماهير" لعبدالحليم حافظ وشادية، و"ليل داخلي" و"فلاش باك" و"مشهد أخير" و"تتر النهاية" وغيرها، كما أنه يسمى بعض قصائده بأسماء أجنبية لها علاقة قوية بالفن السينمائي مثل "فلاش باك" و"ماستر سين" و"ماكينج".
إن هذا التواشج بين عوالم الشعر والسينما والفن التشكيلي في ديوان "أحلام كارتون" لتامر أنور يشي بثراء هذا الديوان صغير الحجم الذي صدر عام 2017 عن فرع ثقافة الإسكندرية في 92 صفحة.