الموت، العدو الخفي والمفزع بالنسبة لكثيرين، والنهاية الطبيعية – بل وربما المريحة- من وجهة نظر غيرهم، والمصير الغامض والمجهول لآخرين، يبدو فكرة – مهما حاول الفكر البشري استيعابها بفلسفاته ونظرياته وعلومه- يبدو فكرة عصية على التخلي عن موقعها ربما في صدارة القضايا الإنسانية دائمة التجدد.
موضوعات مقترحة
لو أن دراسة حاولت الوقوف على إحصائية لعدد الأعمال الأدبية والفنية التي تناولت الموت، سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر، لخرجنا بكم من الأعمال يبدو حصرها في غاية الصعوبة، ما بين التناول الميلو درامي الساعي للتأثير العاطفي في القارئ أو المشاهد المستعد للبكاء خوفًا من ذلك المصير المجهول، وما بين التناول الأسطوري الميتافيزيقي، أو التناول الأخلاقي الديني والفلسفي الساعي لإكساب الموت وجودًا منطقيًا يريح الوعي البشري القلق والمستريب بشأن كنه ذلك المجهول القابع في نهاية الطريق.
بشكل عام تبدو هذه الأعمال محاولة لإكساب الموت، أو "السيدة موت" حسب تعبير ساراماجو، معنى، وإن اختلفت في تحديد هذا المعنى. هل يمتلك الموت هذا المعنى بالفعل؟ وهل تستريح البشرية – على ما بلغته من تطور في علومها وفلسفاتها- لهذه المحاولة لعقلنة ما هو مجهول بالنسبة لها؟ أسئلة لعل المخرج الأمريكي وودي آلن حاول الإجابة عنها، في داخله أولًا، في مسرحيته "death" التي قدمها في 1975، ويحاول المخرج أحمد شبل وفرقته "على الناصية" إعادة طرحها في مسرحية "الموت" التي استضافها المعهد الفرنسي بالقاهرة ضمن فعاليات مهرجان "أفانسين" لمسرح الشباب.
وودي آلن – من خلال ما نعرفه من حواراته وما يكتبه بنفسه- شخصية أقرب إلى العدمية، يرى الحياة بنظرة ساخرة وسوداوية في آن، لديه شكوك عميقة حول الحياة، الحب، الجنس، وبالطبع الموت، محملًا في ذلك كله بهوية فكرية معقدة تقف خلفها يهودية موروثة وإيديولوجية توصف عامة بالإلحاد، فيما تبدو مقارنة متأنية بينه وبين أسماء شهيرة أكسبتها لا دينيتها طمأنينة وثقة غير عاديتين – ستيفن هوكنج وريتشارد دوكنز على سبيل المثال- قادرة على وضعه في خانة اللاأدرية، هذه الخلفية الإيديولوجية المعقدة لآلن لابد أنها تركت أثرًا على تناوله لمفهوم الموت – التيمة المتكررة في كثير من أعماله، ويبقى السؤال بالنسبة للمخرج أحمد شبل حول قراءته للعمل، ومدى قدرته على معالجته.
تدور المسرحية حول كلينمان، الذي توقظه من فراشه مجموعة قررت مساعدة الشرطة في البحث عن سفاح يجول في شوارع نيويورك يتصيد ضحاياه بطرق سادية، ليدفعوا به في خطة مجهولة لمطاردة السفاح المجهول.
تبدأ "الموت" بافتتاحية مفارقة لافتتاحية العرض الأمريكي؛ ففيما يبدأ العرض الأمريكي مستخدمًا تقنية يمكن وصفها بـ"خيال الظل" حيث تتحرك خلف الستار الذي يقع خلف سرير كلينمان ظلال لبشر يمضون في الطريق ليفاجئهم السفاح في مطاردة كاريكاتورية، يبدأ أحمد شبل مسرحيته بعرض حركي تتشابك فيه الأجساد لينتهي بتقديم لوحة من الأجساد البشرية تمثل لوحة مايكل آنجلو الشهيرة "خلق آدم"، يليها دق زوجة كلينمان على "الهاون" بطريقة تشبه الاحتفال بالمولود الجديد في الثقافة الشعبية المصرية.
يبدو كلينمان مثالًا نموذجيًا للبطل الضد أو الـ "Anti-Hero"، المرتعب من مواجهة السفاح ومطاردته، والحالم بميتة هادئة في سن يتجاوز الثمانين على فراشه، لا بميتة بشعة كالموت خنقًا بأوتار الجيتار، أو الذبح، أو غيرها من الطرق التي اعتادها السفاح المجهول.
تلقي الفرقة بكلينمان في آتون مطاردة عبثية للسفاح، ليجد نفسه مجبرًا ظاهريًا على المطاردة، ومنخرطًا في داخله في محاولة الهرب. ليس هناك وجود فعلي لمسرح؛ فالعرض يقدم في حديقة المعهد غير المسقوفة بطبيعة الحال، دون وجود مقاعد حيث يجلس المتفرجون على سجادة فرشت على الأرضية، لينخرطوا في متابعة المطاردة التي تدور أمامهم، وحولهم، وخلفهم.
يلتقي كلينمان خلال رحلة المطاردة بعدة شخصيات تشارك في الخطة المجهولة بالنسبة له، والتي يخبره أحد بها؛ لأنه – فيما يقولون- لا يعلم أي منهم سوى دوره فيها، ليدلي كل منهم بدلوه في مسألة المطاردة.
الطبيب يسعى جاهدًا لأن يوقع السفاح في قبضته؛ ليتمكن من تمديده على "التروللي" في مختبره سعيًا لتشريحه وفهم دوافعه الإجرامية والسادية. وفتاة الليل التي تبدو أجرأ من كلينمان في مواجهة السفاح، بل وتقدم له في إطار كوميدي درسًا في الفلك، والعسكري المتقاعد الذي يدعي أنه واجه الموت مرات عديدة خلال رحلته العسكرية، أجواء كوميدية يستطيع المشاهد أن يستشف منها رغم ذلك سوداوية ومرارة خوف كلينمان من السفاح المجهول.
فيما يقع الطبيب ضحية للسفاح الذي طعنه خفية، تلقي الشرطة القبض على كلينمان، بعد أن ادعى عراف أنه هو السفاح، وخلال محاكمة هزلية يجد كلينمان نفسه يواجه الموت بالإعدام بتهمة القتل، الذي لم ينقذه منه سوى أحدهم يخبر الشرطة بأنهم عثروا على السفاح – من خلال ضحية أخرى بالضرورة.
وخلال انشغال المجموعة في البحث عن السفاح يجد كلينمان نفسه أمام ما خشيه وجهًا لوجه، أمام السفاح. يفضي السفاح، ربما لأول مرة، لكلينمان بدوافعه التي جعلت منه مجرمًا ساديًا يتلذذ بقتل ضحياه بطرق متنوعة وبشعة، السفاح مجنون مختل نفسيًا كما يخبر كلينمان بكل بساطة، غير أنه لا يواجه ضحاياه، يتحين الفرصة لينقض على ضحيته في لحظة سهو، ثم، ينتهي كل شيء.
وكما هو متوقع، فإن السفاح لن يتخلى عن طبيعته الإجرامية وعن ساديته، ولن يرق قلبه أمام بلاهة كلينمان، الذي ما إن يدير ظهره حتى ينقض عليه قابَضًا على عنقه، تاركًا إياه يلفظ أنفاسه الأخيرة لتنشغل به المجموعة التي تجده ملقى، قبل أن تنصرف حين تعلم بأنهم وجدوا السفاح في مكان آخر.
السفاح/ الموت، مجرم سادي، يتلذذ بقتل ضحاياه، ولكنه رغم ذلك جبان، لا يقوى على المواجهة، يقتل خفية. ولعل المشاهد لا يكون قد أسرف في التأويل بالعودة إلى المشهد الافتتاحي، لوحة خلق آدم، ثم دق الهاون، لينتقل إلى نهاية العرض بموت كلينمان ضحية للسفاح، ليبدو ما بينهما تجسيدًا لحياة الإنسان، حياة كلينمان – الإنسان الحائر والقلق تجاه الموت- رحلة من المطاردة المزدوجة بينه وبين السفاح / الموت، في محاولة فضولية للتعرف عليه تارة، والهرب منه تارة أخرى، في حين تقبع في نهاية الطريق نهاية محتومة بطلها الموت/ السفاح، السادي والجبان في آن.
في المجمل، يبدو العرض معالجة رشيقة لنص آلن، لم يثقل صناعه بتوسيع النص مستعيضين عن ذلك بتعبير حركي بدا معبرًا، ومحتفظين – مع تمصير لغة الحوار- بكوميديا وودي آلن السوداء، القادرة على الإضحاك رغم سوداويتها.
"الموت" مأخوذ عن نص للأمريكي وودي آلن، تقديم فرقة "على الناصية"، بطولة بيشوي جورج، سينوجرافيا محمد فاروق، وإخراج أحمد شبل.
جانب من العرض جانب من العرض جانب من العرض