Close ad

التراث وأنا

3-10-2017 | 13:03
التراث وأنا-
منير عتيبة

تتعدد مفاهيم التراث لغويًا واصطلاحيًا، لكنها تتفق جميعا في محاور أساسية، أن التراث يرتبط بما تركه الآباء والأجداد من إرث أو ميراث، وأن هذا الإرث مادي ومعنوي، مادي يتمثل في كل ما تركوه لنا من مبانٍ وأدوات مادية ملموسة، ومعنوي يتمثل في كل ما تركوه لنا من معرفة وقيم ومحددات سلوك غير ملموسة، وهذا التراث قد يكون دنيويًا، أو مصبوغًا بصبغة دينية تضفى عليه قداسة بشكل أو بآخر.

موضوعات مقترحة

لكنني؛ وخلال مسيرتي الإبداعية، كنت أتعامل مع التراث بمفهوم يخصني وإن لم يبتعد كثيرًا عن المعاني الأساسية لكلمة تراث، فقد اعتبرت الآباء والأجداد هم كل من سبقوني في التاريخ الإنساني، وليس آبائي وأجدادي من العرب أو المسلمين فقط، وتعاملت مع التراث الرسمي والتراث الشعبي بالقدر نفسه من الاحترام بدون تفرقة باعتبارهما معًا من أشكال تعبير الإنسان عن نفسه في لحظة زمنية معينة.

وكنت أعتقد أن التراث يمكن أن ينقسم إلى حي وميت، التراث الميت هو الذي لم يعد له تأثير حقيقي في إنسان الحاضر، والتراث الحي هو الذي لا يزال يؤثر في حياتنا الحاضرة أو يمكن أن يكون له تأثير إذا تعاطينا معه بالشكل المناسب، لذلك تعاملت مع التراث الإنساني الرسمي والشعبي في أعمالي الإبداعية بمستويات مختلفة.

في عام 1995 شاركت في كتاب "إسكندرية مهد السينما المصرية"، في إطار الاحتفال بمئوية السينما المصرية، وقد تعاملت مع التراث القريب، تراث السينما المادي والمعنوي، من خلال أبحاث ثلاثة شاركت بها في هذا الكتاب، البحث الأول كان حول دور مباني السينما بالإسكندرية، كيف كانت وما آلت إليه بفعل التغيرات الاقتصادية والاجتماعية، حيث تحول الكثير منها إلى مطاعم ومحلات للأحذية وصالات أفراح، ولهذا دلالات عديدة فيما يخص علاقة المجتمع بالفن عموما والفن السينمائي على وجه الخصوص.

أما البحث الثاني، فكان اكتشافًا لقريتي "خورشيد" الواقعة على الحدود بين محافظتي الإسكندرية والبحيرة، والتي كان بها دار عرض سينمائي صيفي في خمسينيات القرن العشرين، كان أبي يشاهد فيها الأفلام وهو طفل، والبحث الثالث كان قراءة في كتاب الدكتور محمد كامل القليوبي عن رائد السينما المصرية محمد بيومي.

وفي مجموعتي القصصية الأولى "يا فراخ العالم اتحدوا"، يبدو اتكاء الكثير من القصص على التراث الفكري والأدبي والشعبي والعالمي، فعنوان الكتاب نفسه هو محاكاة ساخرة لشعار "يا عمال العالم اتحدوا"، والقصة التي تحمل العنوان نفسه هي محاكاة تهكمية لقصة جورج أورويل الشهيرة "مزرعة الحيوانات"، وإحدى قصص المجموعة تشير إلى "فشنو" إله الهنود، إضافة إلى بعض حكايات قريتي وعائلتي التي تم تناقلها عبر الأجيال.

تطور اهتمامي بالتراث في كتابي "الأمير الذي يطارده الموت وحكايات أخرى"، وهو كتاب موجه للفتية، حيث لاحظت أن الكثيرين يعتقدون أن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة بناء وحجارة وموت أكثر منها حضارة حياة وإبداع، فقمت بإعادة كتابة وتبسيط بعض القصص الفرعونية الكبرى، القصص الأدبية وليست التاريخية، ومنها قصة الأخوين التي تعد من أقدم القصص الأدبية المكتوبة في التاريخ، وكذلك كل من قصة "حكايات عن السحرة" و"حكاية السكين الخرافي"، والتي تبين أثر الأدب المصري القديم في ألف ليلة وليلة بما فيه من غرائبية وفانتازيا وتقنية الحكاية من داخل حكاية وقصة "الأمير الذي يطارده الموت" التي كانت فكرتها الأساسية هي ما بني عليه نجيب محفوظ روايته "عبث الأقدار"، وهو ما يؤكد ليس فقط فكرة تنوع الإسهام الحضاري للحضارة الفرعونية في الحضارة العالمية على المستويين المادي والمعنوي، بل يؤكد أيضا تواصل التراث الإنساني وتأثيره وبالذات فيما يخص الإبداع الأدبي.

هذا ما نبهني إلى الانتقال إلى مرحلة إبداعية أخرى في التعامل مع التراث، وكان تركيزي في هذه المرحلة على التراث الشعبي العربي بالأساس ومعه التراث العالمي وخصوصًا الهندي والإفريقي والصيني، ونتج عن هذه الفترة متوالية قصصية "مرج الكحل" ومجموعة قصصية "حاوي عروس"، واللتان تم طباعتهما معا فيما بعد في كتاب واحد "الحكايات العجيبة لمنير عتيبة".

كان إعجابي الكبير بكتابات رواد تيار الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية دافعًا لي للبحث عن أصول ومصادر هذا الاتجاه الأدبي، ولاحظت أن الثقافة العربية عمومًا، وكتاب "ألف ليلة وليلة" بالذات، من المصادر الأساسية المكونة لثقافة الكثيرين من أعلام الواقعية السحرية، كما لفتني ما صرح به جابرييل جارثيا ماركيز بخصوص النبرة التي استعارها من جدته ليحكى بها روايته الشهيرة مائة عام من العزلة، والتي حولتها إلى مسلسل إذاعي فيما بعد.

وهذه النبرة تتمثل في حكاية كل ما هو غريب وغير واقعي بتلقائية وبساطة كأنه واقعي جدًا، وهو ما أثار تفكيري في تراثنا الشعبي والرسمي أيضًا، التراث الفرعوني والعربي، لأكتشف أن لدينا ما يمكن أن نطلق عليه (الواقعية المصرية)، فما يظنه الآخرون غريبًا وعجيبًا نعيشه ونتعامل معه على أنه من مقتضيات حياتنا اليومية، نحن نؤمن بوجود عالم غير مرئي يحيط بنا بكل ما فيه من كائنات مختلفة، ونتحدث إلى الموتى بثقة أنهم يسمعوننا، ونعرف أن العين تفلق الحجر وتغير مجرى حياة البشر إلخ.

كتبت مشروعي "الحكايات العجيبة"، بهذه النبرة المتكأة على تراثنا الفكري والعقدي منذ أيام الفراعنة وحتى الآن، ولم يمنعني ذلك من الاستفادة بروافد أخرى تتفق معنا في أساس هذا الفكر وبالذات في التراث الإفريقي والآسيوي.

وبالتالي انفتح العالم أمام قصص هذا المشروع، فأصبح العفاريت والجن والنداهة وسكان العالم السفلى ومواليد الأحلام المستحيلة والشجر الغاضب والحمار العاشق لأنسية، أصبح كل ذلك جزءً أصيلا من عالم أبطال القصص البشريين، الذين لم يعودوا هم وحدهم العالم، بل اتسع عالم هذه القصص ليصبح البشر بعض مكوناته، مما أعاد تنظيم العالم ليصبح أكثر رحابة ومحبة بين كائناته المختلفة المرئية وغير المرئية والمتحولة.

ولم أبتعد كثيرًا عن عالم التراث الشعبي عندما قررت نقل جمال ورحابة وسحر هذا العالم للأطفال، فكتبت قصصا من التراث الشعبي العالمي في شكل سيناريو، وبعضها في شكل قصصي، تم نشر بعض هذه الكتابات في مجلات متخصصة للأطفال مثل (قطر الندى) و(علاء الدين)، كما تم نشر عدد من القصص الشعبية العربية للأطفال فى كتاب (حكايات عربية) والتي كان من أهداف نشرها معا أن يتعرف الأطفال على حكايات بلاد أخرى، وليعلموا أن العالم أكثر اتساعا وتنوعا مما يعيشونه، فقدمت حكايات من مصر وجيبوتى وفلسطين وسوريا واليمن وقطر.

ثم اتجهت إلى التراث الرسمي في روايتين تاريخيتين لي هما (أسد القفقاس) و(موجيتوس)، فى الروايتين كنت أرغب في الإمساك بلحظة تاريخية يمكن لها أن تتحاور مع لحظتنا الآنية، لتساعدنا أن نكون أكثر فهما لحاضرنا. لكن تعاملي مع هذا التراث لم يكن بالشكل نفسه في الروايتين.

في (أسد القفقاس) ذهبت إلى منطقة جغرافية أظن أن الرواية العربية تذهب إليها لأول مرة هى منطقة داغستان والشيشان فى القرن التاسع عشر، حيث بحثت في حياة الإمام شامل الداغستانى برواية تاريخية تعتمد على تعدد الأصوات، بما يلقى الضوء على ما يشبه واقعنا المعاصر، أما فى (موجيتوس) فذهبت إلى أوروبا وقت عز الإسلام فى الأندلس (عهد عبد الرحمن الناصر) لأحكى رواية أغفلها التاريخ الرسمي وأشارت إليها المصادر فى سطور مقتضبة عن مغامرة قام بها عشرون شابا أندلسيا واستمرت لمائة عام فى أوروبا.

 في الرواية الأولى كان التاريخ حاضرا بقوة، وفى الرواية الثانية كان التخييل هو البطل، لكنىى فى الروايتين كنت أتعامل مع تراث لا يزل حيا ويمكن أن يكون مؤثرا فيما نحياه الآن، وليس مجرد تراث متحفى للفرجة فقط.

كل هذه الأعمال تم إنتاجها خلال عشرين عاما (1995-2015) وخلال آخر خمسة عشر عاما منها كانت القصة القصيرة جدا تشغلني، وكانت الكتابة النقدية تشغلني أيضا، ولم يسلما من اهتمامي بالتراث!

كتبت مقالات عن الحكايات الشعبية الإفريقية وحكايات الهاوسا والخرافات الصينية وبوذا إلخ كما أجريت حوارا كبيرا بحجم كتاب لم ينشر حتى الآن عن حياة وأعمال واحد من أهم رواد العمل في مجال الدراسات الشعبية وهو الأستاذ عبد الحميد حواس، لكن كتابي (عمر بن الخطاب وهؤلاء) كان هو الجدل الحقيقي بين التراث الأدبي القريب والتراث التاريخي البعيد.. كانت فكرة الكتاب تقوم على تحليل ما كُتب في العصر الحديث عن عمر بن الخطاب، من الذي كتب؟ ولماذا كتب؟ وماذا كتب؟ وكيف؟ وفى أية ظروف؟، وذلك من خلال تحليل ما كتبه حافظ إبراهيم فى القصيدة العمرية، وفؤاد حداد في قصيدته عن عمر بن الخطاب من مجموعته المسحراتي، والعقاد في "عبقرية عمر"، وطه حسين في "الشيخان"، وخالد محمد خالد في "بين يدي عمر"، وعبد الرحمن الشرقاوي في "الفاروق عمر"، ومحمد حسين هيكل في "الفاروق عمر"، وعلى أحمد باكثير في "الملحمة الإسلامية الكبرى" التي تتكون من تسع عشرة مسرحية عن عمر بن الخطاب وهى حالة فريدة في تاريخ المسرح العربي.

وبرغم اعتزازي بكل القصص القصيرة جدا التي يحتوى عليها كتابي (روح الحكاية) والتي كتبتها خلال حوالي خمسة عشر عاما، وقدر لها أن تفوز بجائزة الدولة التشجيعية في الآداب بمصر لعام 2015، إلا أن القصص التي تتحاور مع التراث الفرعوني والديني الإسلامي والتاريخي من أقرب هذه القصص إلى نفسي، وقد لعبت في معظمها لعبة عكس القيمة للتعبير عن انحدار حاضرنا المعاصر، وقبل أن أختم هذه الشهادة بنماذج من تلك القصص، ربما يكون من المبتذل التأكيد على أن التعاطي مع التراث حق وواجب، ومن ليس له ماضٍ لن يكون له حاضر أو مستقبل، والحاضر هو ماضي ذلك المستقبل، وبرغم إن هذا الكلام عادى ومعاد مكرر إلا أنه حقيقي جدا وليس علينا تجاهله لمجرد أننا نعرفه أو نقوله طوال الوقت، إنه كالتراث ذاته، ليس لأننا نتحدث عنه كثيرا أننا نستفيد به أو نفعله في حياتنا كما يجب وكما يمكن أن يفيدنا. وقد كان التراث ولا يزال بالنسبة لى حكايات رسمية وشعبية ومباني وأزياء وكتابة وأدب وتاريخ وشعر وقيم وقانون إلخ أنتجه الإنسان فى كل مكان وزمان، وقد أعطيت لنفسي حرية التعامل معه باعتباره ملكي تماما.

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة