وقفت طويلاً أمام لوحات "معرض الفن التشكيلي" الذي افتتحته أ.د.أحلام يونس ـ رئيس أكاديمية الفنون؛ وأزاحت الستار عن معرض الفنان المتفرد بكل روائع سيكولوجية الخطوط والألوان أ.د.محمد عزب؛ وأنارت اللوحات قاعة د.مختار عبدالجواد بأكاديمية الفنون، وستمتد فعالياته على مدار شهر سبتمبر، وما أجمل "سبتمبريات" هذا العام لهذا المعرض الذي يتصدره عنوان: " الفن التشكيلي.. وتجريد التجريد".
موضوعات مقترحة
آمنت بأن الفنان.. هو ذلك المبتكر ذو الأفكار الغريبة عنا، فالفنان غالبًا ما يكون سابقًا لعصره؛ ويعرفه الناس برؤاه المختلفة عن طبائعهم ونظرتهم للأشياء؛ نظرًا لتميز أفكاره وتفردها؛ لكنه في الواقع يُعد أذكى الناس وأكثرهم خيالاً وإحساسًا، فالفنان هو ركيزة الحضارة والقائد الكفؤ الذي نذر نفسه ليكون قاطرة التطور لمجتمعه والمجتمعات البشرية كافة؛ ويُعد دخوله لأي مجال عملي أو علمي قد يحوِّله من العالم المعقول إلى العالم اللامعقول، فالفنان المرهف يرى ما يراه الناس.. لكنهم لا يرَون ما يرى.
ونحن بدورنا لا نملك إزاء كل هذا الجمال، وأمام تلك النقاط المضيئة في قاهرة المعز عاصمة المحروسة وأم الفنون في العالم؛ إلا أن نحيي كوكبة الفنانين القائمين على هذه القلعة الشامخة "أكاديمية الفنون"؛ لإيمانهم بأهمية الفن في حياة الشعوب؛ وأن العالم الذين نعيشُ فيه والمليء بالصراعات؛ يَعتمِد على الجانِب المادّي (المال والمادّة)، فالفنون تعمل على إقامة التوازن المطلوب بين المظاهر الروحية مع الجوانب المادية فِي الحياةِ؛ لإشباع الرغبات اللامرئية الكامنة في الأعماق الإنسانية؛ فالفنون الجميلة مثل سماع الموسيقا وكتابة الشعر والفن التشكيلي.. هي السبيل للارتقاء بين أفراد المجتمعات التي تبتغي الارتقاء.
وقبل أن نذهب لاستعراض اللوحات، دعونا نقرأ ماذا قال الفنان عن معرضه، حتى نستطيع أن نتذوق معًا كُنْـه وجمال وروعة هذا الفن : "التجريد.. مذهب في الرسم نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الخمسينيات من القرن العشرين؛ وانتشر فيما بعد في أوروبا، ويقوم على نظرية تقول بأن الألوان والخطوط والأشكال، إذا ما استخدمت بحريَّة في تركيب غير رسمي، أقدر على التعبير وإبهاج البصر منها حين تُستخدم وفقًا للمفاهيم الرسمية أو حين تُستعمل لتمثيل الأشياء أو الأشخاص، من أبرز ممثليها "جاكسون بولوك" و"هانس هوفمان، وكان من ممثليها "نسكي" و"كلي" وتركت محاكاة الواقع الخارجي لكي تعبر عن الذات الداخلية، وفي الدراما تلجأ التعبيرية إلى تجسيد حالة لاشعورية بواسطة البنية غير الواقعية والشخصيات الرمزية وتنظيم خاص للأسلوب...."، "... المدرسة التجريدية الفنية.. اهتمت بالأصل الطبيعي، ورؤيته من زاوية هندسية، حيث تتحول المناظر إلى مجرد مثلثات ومربعات ودوائر، وتظهر اللوحة التجريدية أشبه ما تكون بقصاصات الورق المتراكمة أو بقطاعات من الصخور أو أشكال السُّحب؛ أي مجرد قطع إيقاعية مترابطة ليست لها دلائل بصرية مباشرة، وإن كانت تحمل في طياتها شيئًا من خلاصة التجربة التشكيلية التي مر بها الفنان...".
وتكمن المعضلة في كيفية تفكيك المعادلات الموضوعية للفنان؛ سواء في قصيدة الشعر أو الرسم بالريشة في لوحة الفن التشكيلي، ويقول أساتذة النقد الأدبي عن "القصيدة"؛ إن كل "نَـصْ أدبي" يحمل في داخله تأويله لدى المتلقي أو المستمع؛ كذلك نجد هذا التأويل لكل من تقع عينه على اللوحة التجريدية؛ فيأخذك الخيال ويوجهك متخذًا من ثقافتك المعرفية تكِئة للتحليل والتأويل والإنصاف للعمل الفني الذي يشدك للوقوف قبالته؛ وتأمل نمنمات تفاصيله، وتحاول أن تعرف: ماذا يريد الفنان أن يقول.
وطال وقوفي وتأملي للوحات المعرض؛ وبخاصة لوحات التجريد في "الحروف العربية" ورؤيته في التعبير عن "البحر" بضفافه وأعماقه المجهولة كما يراها بعيون فرشاته؛ والعمق الكامن في رؤيته التجريدية للجسد الأنثوي لـ "المرأة" واستخدام التجريد بالشكل الجمالي والألوان الزخرفية المتقاطعة المتداخلة في هارمونيا رائعة؛ كأنها الموسيقا التي تعزفها الفرشاة على أوتار جسد الرقعة داخل إطارها المحدود.. حتى لتشعر كأنها تكاد تطير فوق رأسك ابتهاجًا بتصويرها وترجمتها بهذا الجمال.
فكانت روعة التجريد للمرأة في تجليات اهتمامه بالتفاصيل والتضاريس الأنثوية دون التأثير على المتلقي بتفاصيل "الوجوه والتقاطيع"؛ ربما ليترك للمشاهد حرية الانطلاق للخيال والتحليق في آفاق ذاته الداخلية، ومنحتنا لوحات "البحر" حرية الإبحار مع تلك الأشرعة التي تفتح صدرها للرياح؛ كأنك تقرأ قصة أو رواية عمادها الخطوط والألوان حتى نهاية الأفق في اللوحة.
إذن.. الفن هو الجمال الذي يعكس الواقعية والموضوعية؛ فالواقعية تجدها حيث الجودة والإبهار الجمالي والتعبير عن القيمة المستقلة لرأي الإنسان؛ والموضوعية حيث تكمن قيمتها في الاعتماد على التجربة الإنسانية عامة؛ ويستطيع الفنان أن يعبر عنها لغير المتخصص؛ فيعكس ما عجز عن التعبير عنه من ليس لديه القدرة على التعبير؛ ويأتي الفنان كي "يخربش" أعماقه ووجدانه؛ ويجد في قصيدته أو لوحاته غاية المراد لروحه الشفافة المرهفة؛ ويجد المشاهد أو المتلقي فيها المنحى الفلسفي الذي لا يجده في الحقيقة على أرض الواقع من حوله.
واليوم نقف لنقدم كل التحية والإجلال لروعة لوحات "تجريد التجريد" في معرض الفنان أ.د.محمد عزب؛ وكانت اللفتة الجميلة من أ.د.أحلام يونس؛ أن تنتقي مختارات من لوحات المعرض؛ لتزيين القاعات في صدارة الأكاديمية؛ لتكون خير شاهد على إبداعات الفنانين.. قاطرة الجمال في مصر المحروسة.