Close ad

استغلال لحظة حزن

11-9-2017 | 19:24
استغلال لحظة حزنصورة تعبيرية
عدنان فرزات

حين يتحول لون أوراق الأشجار إلى الأرجواني على ضفة نهر الفرات في الخريف، فإنها تكتسب جمالية الشجن وتبدو كما لو أنها أرملة ترتدي فستانًا داكنًا منقوش عليه بيت شعر أندلسي.

موضوعات مقترحة

هكذا بدت السيدة في الصورة القديمة التي أخرجتها ابنتها من المحفظة، وكانت تجلس بجانبي في القطار المسافر من مدريد إلى قرطبة. فقدتِ القطاراتُ الحديثة صوتها الهادر وأصبح بإمكاني سماع صوت الفتاة واضحًا، ما أفقدني فرصة أن أميل برأسي نحوها كي أسمع ما تقوله.

"هذه أمي"
قالت لي الفتاة وهي تمد يدها بالصورة نحو الأمام كي يتاح لنا رؤيتها معًا. ثم أبقتها لفترة طويلة تتأملها قبل أن تعيدها من جديد إلى المحفظة.

خشيتُ أن ينتهي الحديث بيننا عند هذا الحد، فبدأتُ أصطنع أي كلام حتى لو كان لا لزوم له، كأن أقول لها: "جيد أنني وجدت من يتحدث العربية".

كانت ملامحها مزيجًا من سمرة شرقية ونحافة غربية. تمنيت لو أن نافذة القطار تُفتح كما في القطارات القديمة لعلّ دفقة هواء تحرك شعرها الساكن بوقار ثلاثيني من العمر. كانت تُحرك يديها بترف أرستقراطي، وتحين تتحدث تبدو وكأنها تعد الحروف في الكلمات كي لا تزيد أو تنقص حرفًا.

اختلستُ النظر إليها، كانت تتأمل انعكاس ظلي في زجاج نافذة القطار ذي الإضاءة الخفيفة وقد بدأ المساء يلقي أول ستارة شفافة من عتمته على الأفق، فبدت أغصان أشجار الزيتون مثل أذرع خيالات جنيّات أسطورية.

كانت لدى الفتاة رغبة شديدة بالتحدث عن أمها التي تعيش تحت ظل الحرب في مدينة الرقة السورية التي كانت قبل الحرب مستكينة بهدوء على ضفة الفرات. لم يكن يسمع عنها الكثير من الناس إلى أن بدأ اسمها يظهر في نشرات الأخبار.

قالت لي الفتاة إنها قلقة جدًا على أمها في الحرب، ثم أعادت إخراج الصورة من محفظتها وراحت تتأملها هذه المرة من دون أن تمدها إلى الأمام بل قرّبتها من عينها وكأنها تتهجى ملامحها.

في لحظات الشجن، تتفتح أبواب الذاكرة على أشدها، كانت الفتاة تحكي ذكرياتها مع أمها بأدق التفاصيل، ولا أدري إن كانت تحدث نفسها بصوت عالٍ أم أنها تحدثني فعلياً بهذه الأسرار. شعرتُ أنني أنتهز هذا الحزن في حديثها كي أتأمل لحظات التقاء شفتيها وهي تنطق بعض الحروف بأناقةِ الزنبق.

لم يكن من النبل أن أسترق النظر إلى تفاصيل وجهها الذي بدا مثل فضة قمر في حقل للسنابل بمدينة مرسومة بكتاب لقصص الأطفال. كنتُ أقمع ضميري بل أستحثها للمتابعة كلما توقفت كلامها عن أمها والحرب.

قالت لي إن هناك تخاطراً روحياً غريباً لم تستطع أن تفسره بينها وين أمها، فهي كلما شعرت بأنها أمها حزينة أو في خطر، تُخرج الصورة وتتأملها، وحين تتصل بأمها يكون الأمر صحيحًا:
"صدقني...."
اقتنصتُ الفرصة كصياد اهتزت شباكه:
"اسمي سومر"..
"اسمي هيلانة"
حرف الهاء في أول الاسم يشبه التنهيدة..
حاولتُ إقناعها بأن هذا وهم وربما أن ما حصل معها جاء على سبيل المصادفة، لكنها أصرت على أن هذا التخاطر حقيقي.

لم يمنعني شعورها بالحزن من التفكير في ما لو أنها تسند رأسها على كتفي، تمنيت لو فعلت ذلك. لم يعد ضميري يؤنبني، أسكته على الآخر أمام سطوة جمالها. تعمق الحديث بيننا، عرفت أنها تعمل مترجمة، فاقترحت عليها عملاً في الجامعة التي أعمل بها مدرساً، فلم تمانع. تبادلنا أرقام الهواتف.

نهضتُ من مكاني إلى كافتيريا القطار، غبت قليلاً وأحضرت معي فنجانين من الإيسيبريسو. بعد أول ارتشافة رن هاتفها، قالت بهمس قبل أن تُجيب: "غريب لم يظهر الرقم". ثم تلكأت كلماته ممزوجة بشهقات بكاء خفيفة وهي ترد بارتباك وقلق. ثم أغلقت الهاتف والتفتت نحوي:
"ألَمْ أقل لك إنني أشعر بأمي حين تكون في خطر.. هذا الاتصال من شخص لا أعرفه يقول إن والدتي أعطته الرقم ليخبرني أن القذائف تنهال على المدينة".

حتى بكاؤها كان أنيقاً، تجرأتُ ومددت يدي إلى رأسها ووضعته على صدري. لم أكن أريد أكثر من هذه اللحظة. مر على هذه الحادثة قرابة الأربعة أسابيع. اتصلتْ بي أمس تطلب موعداً للقاء في مكتبي.

لا أدري إن التقينا، هل سأخبرها بأنني أنا الذي أعطيت رقم هاتفها لموظف في مكتبي حين ذهبتُ إلى الكافتيريا، وطلبت منه أن يتصل من رقم فضائي كي لا يظهر عندها، ليخبرها بقصة القذائف، لأحظى برأسها على صدري..؟!
---
عدنان فرزات
(كاتب سوري مقيم في الكويت)

كلمات البحث
اقرأ ايضا:
الأكثر قراءة